أحاديث صادقة منبعها قلبان يتوشحان البياض لتلخص للقراء حكاية علاقة إنسانية. هنا حوار قلبين. مساحة حرة خارج سلطة المحرر تبرز أهمية ديوان «وكأن شيئاً لم يكن» للشاعر طلال الطويرقي في نقاط عدة لعل من أهمها: أنه محاولة تجريبية أخرى تضاف إلى الشعر العربي في كتابة القصيدة/ الديوان التي برزت أولى ملامحها المكتملة مع أنسي الحاج في ديوانه/ القصيدة (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) التي رصد فيها تحولات الأنوثة، ثم أخذ شعراء عقد التسعينيات في أقطار عربية عدة ارتياد هذه التجربة ويمكن أن نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر ديوان ( ملك العراء) لأديب حسن محمد، وفي هذا السياق تندرج تجربة الشاعر الطويرقي الذي يحاول في نصه رصد مواجد الذات الشاعرة وعلاقتها بالآخر/ الأنثى من خلال اعتماد النفس الطويل الذي يلتقط مشاهد متعددة تقوم على تجريب طرح مجموعة شعرية تشكل مشروعاً شعرياً منسجماً على خلاف السائد في كثير من المجموعات الشعرية التي تقوم على تجميع قصائد ولمّها في عنوان في محاولة لجمع شتاتها. لاشك أن الشاعر من عنوان المجموعة يوجه فعل القراءة من البداية نحو استراتيجية قائمة على المحو، فالعنوان دال على الخسران بكل ما يحمله من دلالات إلغائية لأفعال في الماضي باتت سراباً في الحاضر، لكن أداة التشبيه في العنوان( كأن) تقلل من هذا الفعل الماحي للماضي، والحاملان لخسارات القلب ووجعه: وأُطْلِقُ نحلَ ذاكرتي لأولِ صورةٍ فالذاكرة بكل ما تحمله من جمال وذكريات باتت مصدر ألم للشاعر، فالذكريات المفقودة تلح بلسعاتها على الروح، وتتواشج تلك المقولات عبر تشكيلات لغوية متعددة تأتي في مقدمتها اللغة المائية، لا سيما عند اقترانها بالمؤنث، فتسم الصورة بالطرافة، ولو نظرنا في معجم اللغة الشعرية لوجدنا طغيان حضور الماء ومرادفاته الدلالية في تشكيلات الصورة الفنية والمشاهد المحتفية بالغياب، فصرتُ أكثرَ قدرةً من قبلُ أتقنتُ التزلجَ فوقَ حبكِ جيدا بكل ما تحمله من علو شاهق في بلوغ قمتها، وبكل ما تحمله من نقاء وصفاء، وهذا المزج بين الدلالتين المختلفتين، ولا يخلو من كد وتعب وهذه حالات الشاعر في تعامل مع من يحب. ومن هنا لا غرابة أن تكون دلالة (العلو الشاهق) من الدلالات الكامنة في كثير من صور الشاعر الفنية، كما نلحظ في تعامله مع لفظة ( الغيوم): قلتُ : لنْ تثبَ الغيومُ للهفتي ص 33 لاشك أن الطرافة هنا كامنة في تشخيص المعنوي (اللهفة) في صورة الحسي (الغيوم) وهذا ما يجعل الدلالة عيانية أمام المتلقي، فلا مقياس يوضح المشاعر العظيمة في ذات الشاعر، إلا برسمها بالكلمات لتشخص أمام العين، لا حُلمٌ يعلِّقُ فوقَ غيبتِكِ الغيومَ) وتحضر صور مائية متعددة في رصد الغياب، بكل ما يحمله من التماع خاطف يزيل عتمة القصيدة/ عتمة القلب، أما في الشاهد الثاني فإننا أمام صورة مختزلة شديدة التركيب، اعتمد الشاعر في ديوانه تقنية سردية في تشكيل البنية النصية، فبينما يكون المتلقي سارحاً في تفاصيل النص وبطئه الإيقاعي المستمد من روح النثر تحضر الإيقاعية العمودية بنبرتها العالية لتكون بمثابة تنبيه للمتلقي وتوجيه لحالته النفسية لتنتقل إلى النص النثري، الأرضُ والماءُ والترنيمُ والوترُ ونحن كالأوجهِ الخجلى سنرتحلُ نبلُّ أوتارَها الظمأى ونشتعلُ هي دوزنة للمشاعر التي تتنقل من حالة نفسية إلى حالة أخرى أكثر انفعالاً وأشد تأثراً. أو كما نلحظ في كثرة الحوارات السردية، - سنكونُ أبلغَ حينَ تخذلُهمْ فصاحةُ ما يُقَالُ لكن لا يخفى أن التقنية السردية في النص/ الديون تكون عنصراً مهماً ووسيلة أساسية في تحقيق النقلات الشعورية في النص، وتكون وسيلة لدفع حدثه إلى الإمام، لا سيما عندما تُعتَمد وسيلة للانتقال الزمني بالحدث كما نلحظ في قوله: كما تسهم في تصعيد درامية النص. وأخيراً نشير إلى أن شعرية الشاعر الطويرقي في هذا الديوان هي شعرية منحازة إلى سرد التفاصيل والعناية بدقائقها الصغيرة، بالتعبير العفوي عن الذات بعيداً عن التكلف البلاغي، أو الإغراب في تشكيلات الصورة واللغة الشعرية، وهذا ما يمكن إن نقول إنه سمة عامة وأساسية في ديوانه، ونضحكُ دونَ أنْ ننسى حقيقةَ ما يمرُّ بنا. لكن لا شك أن هذا يمنح الديوان سمة أسلوبية تميزه، لا سيما أن تجريب التوغل في سراديب الذات عبر نص طويل/ ديوان هو اختبار لقدرات الشاعر، ومواجهة شعرية صريحة مع المتلقي الذي قد لا يمنح الشاعر فرصة النجاح من خلال قطعه فعل القراءة، إنّ الشاعر الطويرقي يراهن على الشعر،