يتحدث النص عن الدرجة الثالثة من الفقر عند الصوفية، وهي أعلى من درجتي الفقر السابقتين. فهي فقر عن ملاحظة الوجود الساتر عن مشاهدة الموجود، فيبقى الوجود الحادث في قبضة الله، كالهباء المنثور. يمحو هذا الفقر شواهد استبداد العبد واستقلاله، فيصبح كالكرة الملقاة بين صولجانات القدر. لا يُدرك هذا الفقر إلا بتحققه، وربما يذهل صاحبه عن شعوره بوجوده لغلبة شهود وجود الله. يصح هنا اضطرار العبد إلى الله، ويشهد في كل ذرة فقراً تاماً إليه كرب وكإله معبود. يتحقق هذا الفقر بمعرفتين: معرفة الربوبية والإلهية، ومعرفة النفس والعبودية. بهاتين المعرفتين، يتصف العبد بهذا الفقر، فيصبح غنياً بلا مال، وقوياً بلا سلطان، وعزيزاً بلا عشيرة. يتطلب ذلك البراءة من فرث الجبر، فمن اعتمد على الجبر انحل عنه نظام العبودية. وظيفة الفقير هنا مشاهدة الأمر والشرع، ورؤية قيامه بالأفعال اختياراً، وترتب الذم والمدح عليها. باجتماع شهود الاضطرار مع مشاهدة الأمر والشرع، يتحقق هذا الفقر الأعلى، مع إدراك أن الله هو المتحكم بكل شيء، وأن الخلق عاجزون بلا مشيئته.