رقيت الحياة العقلية في هذا العصر رقيا بعيدا وهو رقي هيّأت له الكتب الكثيرة التي تُرجمت عن الهنود والفرس واليونان كما هيأت له المحاورات والمناظرات بين أصحاب الملل والنحل والأهواء، وهي مناظرات دفعت الشعراء كما دفعت غيرهم إلى التفكير المتصل، الذي ما يَنِي صاحبه يحاور ويناظر متناولا كل شيء، وحتى يبلغ أقصى ما يريد من العلم والمعرفة وما لم يعرفه ولم يعلمه العلماء ، سأل عنه ليصوروه له وليزيلوا الشبهة فيه عن نفسه وفي ذلك يقول بشار بن برد : شفاء العمى طول السؤال وإنما دوام العمى طول السكوت على الجهل فكن سائلا عما عناك فإنّما دعيتَ أخا عقل لتبحث بالعقل ولم يكن الشاعر العباسي يلتمس المعرفة عند العلماء و لقائهم وسعيه لسؤالهم وإلحاحه في السؤال فحسب، بل كان يلتمس أيضا في الكتب المترجمة من كل صنف. وقد نزع الشعراء عامة في هذا العصر للتزود بجميع ألوان المعرفة وما كانوا يجدون في ذلك من لذة عقلية. وقد مضوا يتمثلون كثيرا من هذه الألوان ويحيلونها غذاء شعريا بديعيّا، سواء منها الهندي والفارسي واليوناني، وما لم يحيلوه تأثروا به من قريب أو بعيد، ولنقف قليلا عند الثقافة الهندية في قول أبي نواس في بعض المغنيين هاجيا :قل لزهير إذا حدا رشــــــــدا * قلل أو أكثر فأنتَ مهذاردسخنت من شدة البرودة * حتى صرت عندي كأنك النارلا يعجب السامعون من صفتي* كذلك الثلج بارد حاروهذا الشعر يدل على نظرة أبي نواس في علم الطبائع ، لأن الهند تزعم أن الشيء إذا أفرط في البرد عاد حارا مؤذيا . وكان تأثير الثقافة الفارسية في الشعر والشعراء أشد وأقوى من تأثير الثقافة الهندية ، إذ كان كثير من الشعراء يتقنون اللغة الفهلوية، وقد مضى الشعراء منذ ظهور كتابي الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع يتأثرون بما نقله فيهما من تجارب الفرس وحكمهم ووصاياهم في الصداقة والمشورة وآداب السلوك والسياسة ومن يرجع إلى بشار يجده يفرد للمشورة قطعة طويلة في إحدى مدائحه : ولا ريب في أنّ الثقافة اليونانية كان تأثيرها في الشعر والشعراء أعمق وأبعد غورا، وما بعثت فيهم من محاولات استكشاف دفائن المعاني واستخراج دقائقها وقد مضى كثير من الشعراء المنطق حتى يشحذ ذهنه یزیدون محصولهم من : تلك الثقافة، بل " فياكان منهم من وأذهان الشعراء من حوله. وكان مما ترجم لهم من : تلك الثقافة ( مراثي » فلاسفة اليونان للأسكندر المقدوني عند وفاته وقد نقل منها أبو العتاهية أطرافا إلى مراثيه : بكيتك يا علي بدمع عيني * فما أغنى البكاء عليك شيا کفی حزنا بدفنك ثم أنّي * نفضت تراب قبرك عن يديا وكانت في حياتك لي عظات * وأنت اليوم أوعظ منك حياولعلّ أكبر بيئة عنيت بهذه الثقافات المتنوعة، وكان لعنايتها بها أثر واسع في الشعر والشعراء، بيئة المعتزلة إذ كانت تقوم من الفكر العباسي في هذا العصر مقام السكان والمجداف من السفينة، فهي تثيره وتدفعه إلى أن يزيد محصوله من جميع المعارف والمعتقدات، وأن يتمثلها إلى أبعد حد ممكن ، وبدأوا بأنفسهم فتثقفوا من كل ما ترجم عن الهنود والفرس واليونان وعكفوا على الفلسفة اليونانية عكوفا جعلهم يقفون على كل شعبها ومناحيها في الفكر الدقيق ولم يلبثوا أن استكشفوا لأنفسهم عالمهم العقل الذي يموج بطرائق الذهن في جميع المعاني الحسية والعقلية، وكانوا يحاورون أصحاب الملل والنحل في المساجد الجامعة ومن حين إلى حين يحاور بعضهم بعضا في غوامض الفلسفة محللين مستنبطين . واشتقوا لهم آراء جديدة يدعمها العقل الذي شغفوا به وبأدلته شغف صوَّرَهُ ( بشر بن المعتمر) إذ يقول :لله درّ العقل من رائـــد * وصاحب في العسر واليسوحاكم يقضي على غائب * قضية الشاهد للأمروقد سخَّرَ بِشْرُ عقله في نظم قصائد تدخل في التاريخ الطبيعي يتحدث فيها عن مشاهد الطبيعة ودلالتها على قدرة الصانع الخالق . كما نظم شعراء من المعتزلة شعرا لم يكن بعيدا عن دوائر الشعر المألوفة من المديح والغزل والهجاء والرثاء والوصف بيد أنهم طبعوه بطوابع جديدة من دقة المعاني ومن غرائب الأخيلة والصور.