إسرائيل وتهديد الصواريخ الدقيقة: التفوّق الجويّ بدون طائرات مقاتلة (قراءة مطوّلة للمهتمين) دقّت أجراس الإنذار في أروقة المؤسسة العسكريّة والأمنيّة الإسرائيليّة كما لم تدق في أيّ يومٍ آخر خلال العقود الأخيرة، فقد مثّل الهجوم في حينه عرضا بالذخيرة الحيّة للقدرات الصاروخيّة الإيرانيّة وللنتائج التي يُمكن أن تترتّب على هجومٍ مُشابه، ولكن بأعداد أكبر من الصواريخ والطائرات المُسيّرة، وفي نهايات العام 2020، أي في غضون عام واحد تقريبا من الهجوم، الذي كتب في صيف عام 2020 مقالا مهمّا، جادل فيها بأنّ استحواذ أعداء إسرائيل على صواريخ دقيقة يُمثّل تحوّلا في تاريخ الحرب، لأنّها منحتهم الأدوات التي تُمكّنهم من تحقيق التفوّق الجوي من دون أن يكون لديهم طائرة مُقاتلة واحدة، وذلك من خلال تعطيل أو إضعاف قدرة إسرائيل على استخدام قوّتها الجويّة عبر ضرب مطاراتها في اللحظة الأولى من الحرب. وهي تفصيلاتٌ أعتقد أن غياب هوامش شارحة لها قد يمنع القاريء غير المتخصّص من فهم المقال على نحو جيّد، فقد أضعتُ الهوامش التي كتبتها بخطّ اليد ولم يتبق لدي سوى الترجمة منذ ذلك الوقت. في أعقاب الهجوم الصاروخيّ الإيرانيّ الأخير على إسرائيل، تذكّرت مقال روبين، وقد قلتُ لنفسي أن الوقت قد يكون مناسبا الآن للإفراج أخيرا عن هذه الترجمة ومشاركتها هُنا رغم قِدمها، وبرأيي المتواضع، لكنّ الأهم من ذلك كلّه، لذا فهو يعدّ بحق أب برنامج الدفاع الصاروخي الإسرائيليّ والمهندس الرئيسي وراء منظومة "السهم" (حيتس)، أي يمكن القول أنّه المكافيء الإسرائيلي لحسن طهراني مُقدّم أب برنامج الصواريخ الإيراني. ======================= عوزي روبين يُمثّل ظهور الصواريخ والمقذوفات ذات الدقّة النقطيّة في ميدان المعركة، نقطة تحوّل في تاريخ الحرب، الأدوات التي تُمكّنها من تحقيق التفوّق الجويّ دون تشغيل أيّ طائرة مقاتلة. يعني التفوّق الجويّ النفاذ إلى المجال الجويّ المُعادي، وفي نفس الوقت، حرمان العدو من النفاذ إلى المجال الجويّ الصديق. حريّة العمل هذه تتحقّق من خلال القوّة الجويّة التقليديّة، النقطة المحوريّة في هذا الجُهد المُكلف لا تتمثّل في تحقيق الإشباع الناجم عن إسقاط طائرات العدو أو تدمير بطّاريات الدفاع الجويّ خاصّته، بل في تفكيك قدرات العدو التي تُمكّنه من شنّ الحرب وإدارتها، لقد كان للنصر الدفاعي الذي تحقّق في معركة بريطانيا آنذاك عقابيل استراتيجيّة بعيدة المدى، فقد بدأت في أعقابه العمليّة الطويلة والمريرة لهزيمة ألمانيا النازيّة. في العام 1967، أطلقت مصر عمليّة مشابهة عندما بدأت حرب 1973، وهو ما قاد إلى فشل مصر في تحقيق أهدافها العسكريّة (رغم أنّها نجحت في تحقيق أهدافها السياسيّة). في عمليّة "الكريكيت الخلد 19" في المرحلة الافتتاحيّة لحرب لبنان 1982، وهو ما مكّن بشكلٍ كبير، إنّ المعارك الجويّة المُذهلة وصفوف شعارات العدو المرسومة على أنوف الطائرات المُقاتلة المنتصرة ومقاطع الفيديو التي تُظهر بطاريّات الدفاع الجويّ المُدمّرة للعدو ترفع معنويات الأمّة وتحبط العدو وتجعل من الطيّارين نجوم الميديا. وليس هذا ما يُبرّر الخسائر في المعارك الجويّة. منذ أوائل القرن العشرين، قامت كلّ جيوش العالم بالاستثمار بكثافة في التصدّي للتهديدات القادمة من الجو. في البداية، أو بكلماتٍ أخرى، تمثّلت الاستجابّة في حينه بإكمال ونشر أنظمة الدفاع الجويّ المُتكامل التي تعتمدُ على الطائرات الاعتراضيّة والمدافع المُضادة للطائرات (والتي حلّت محلّها لاحقا صواريخ أرض-جو). وعندما أصبح نظام الدفاع الجويّ البريطانيّ المُتكامل عصيّا على الاختراق من قِبل "اللوفتفافه"، تبنّى الألمان فكرة القصف بالصواريخ بدلا من الطائرات. فقد بشرّت الصواريخ البالستيّة مُجدّدا بـ "الاختراقيّة" التي كانت القاذفات التقليديّة قد خسرتها. من خلال القيام بهذا التعديل، حقّقت ألمانيا جوهر السيطرة الجويّة الكلاسيكيّة، فإنّ افتقارها للدقّة حال دون تغيير مسار الحرب. إن عدم التكافؤ بين الجهود الألمانيّة الهائلة في تطوير وبناء وإطلاق الصواريخ -والذي يُعدّ إنجازا تقنيّا مُبهرا بحدّ ذاته- وبين تأثيرها الضئيل على الحرب، جرى استيعابه في كلّ المؤسسات العسكريّة ما بعد الحرب، لقد أعمت مقولة "الصواريخ لا تكسب الحرب" عيون إسرائيل لسنوات طويلة عن الخطر المُحدق للصواريخ. عملتْ القوّات الجويّة -وتحديدا البريطانيّة والأمريكيّة- على تحقيق الهدف الثاني من السيطرة الجويّة والمتمثّل في ضمان اختراق المجال الجويّ للعدو بأساطيل من المُدمّرات الاستراتيجيّة. لكن تأثير كلّ هذا على مسار الحرب كان لا يزال خاضعا للجدل. وفقط في مرحلة التراجع، عندما استنفذت قدرات "اللوفتفافه" بشكلٍ شبه تام، تمكّنتْ مُدمّرات الحُلفاء من اختراق المجال الجويّ الألمانيّ بخسائر مقبولة. لاحقا، في إحباط السيطرة الجويّة الأمريكيّة وانتزاع ثمن باهظ متمثّلا في إسقاط الطائرات الأمريكيّة وخسارة وأسر طواقمها. كانت القوّات الجويّة الإيرانيّة في ذلك الوقت مزوّدة بأحداث طائرات الاعتراض الأمريكيّة التي تمّ شراؤها خلال فترة الشاه قبل الثورة الإسلاميّة. مستعينا بخبرات الشركات الجوفضائيّة في أوروبا وأمريكا الجنوبيّة، حوّل العراق معظم مخزونة من صواريخ "سكود" إلى صواريخ ذات مدى أطول، أُطلق قُرابة الـ 200 صاروخ على طهران وعلى ثلاثة مدنٍ رئيسيّة أخرى في العمق الإيراني ممّا خلّف الآلاف من القتلى والمنازل المدمّرة وأجبر الملايين على النزوح من المدن. خرج العراق منتصرا. ويمكن الاستخلاص بشكلٍ آمن أنه وفي تلك الحالة، فازت الصواريخ بالحرب. كان ناصر فطنا بما فيه الكفاية ليدرك تخلّف سلاح الجو المصريّ في مواجهة نظيره الإسرائيليّ في أعقاب حرب السويس 1956. ولأنّه كان عاجزا عن تحقيق السيطرة الجويّة من خلال أسطول الطائرات المُقاتلة المأهولة، فقد جاهد ناصر لتحقيق ذات الهدف عبر الصواريخ البالستيّة. المنطق ذاته هو الذي أجبر حافظ الأسد، حاكم سوريا، للحصول على ترسانة ضخمة من صواريخ "سكود" مزوّدة برؤوس كيميائيّة مصنّعة محليّا. وزير دفاعه مصطفى طلاس أشار إلى التبادليّة بين الطائرات المُقاتلة والصواريخ عندما كتب: "حرب العام 1982 كانت حربا جويّة، في الوقت الحالي، تُواجه المنظّمات الإرهابيّة إسرائيل من لبنان وغزّة. ولذلك، فقد زودا نفسيهما بمخزون ضخم من الصواريخ البسيطة واستخدموها لإرهاب إسرائيل وقتل المئات من المدنيين وإحداث خسائر كبيرة في الممتلكات والاقتصاد. تحسين الدقّة كان من الممكن تحقيقه فقط من خلال أنظمة التوجيه الكهروميكانيكيّة المُعقّدة والمكلفة. لهذا السبب، بالرغم من ذلك، استطاعت التكنولوجيا عبر الزمن من مواكبة التطوّر. لما يقرب من العقد الآن، واليوم، يجري تطوير الصواريخ الدقيقة الموجّهة على يد كلّ القوى الكبرى في العالم وعلى يد دول صغيرة أيضا. تقود إيران القافلة، إذ تقوم الآن بتحويل كلّ مقذوفاتها القديمة وصواريخها إلى أسلحة دقيقة. وهي تقوم أيضا بتزويد حلفائها في المنطقة بالخبرة والمواد التي تمكّنهم من تطوير قدراتهم الخاصّة في هذا المضمار مثل مشروع الصواريخ الدقيقة لحزب الله في لبنان. لماذا إسرائيل توّاقة بشدّة لإحباط مشروع حزب الله للصواريخ الدقيقة؟ لأنّه بمجرّد تحقيق هذا المشروع، فإنّه سيرفع قدرات حزب الله في شنّ الحرب إلى مرتبة قوّة عسكريّة نظاميّة. سيتمكن حزب الله عندها من الحصول على كلّ مزايا القوّة الجويّة الهجوميّة بدون الحاجة لطائرة مقاتلة واحدة. واحدةٌ من أكبر مزايا المقذوفات والصواريخ هي بصمتها المتواضعة. والصواريخ الموجّهة بدقّة تتمتّع بنفس الميزة أيضا، على العكس من ذلك، فإنّ "كعب أخيل" القوّة الجويّة الكلاسيكيّة هو اعتمادها على قواعد ضخمة مليئة بالمدراج التي يبلغ طولها عدّة كيلو مترات وبحظائر الطائرات والورش ومراكز الاتّصالات وغيرها. إنّ هشاشة القواعد الجويّة الضخمة والثابتة إزاء الصواريخ الدقيقة كُشفت أثناء الهجوم الإيراني في يناير/كانون ثاني 2020 على قاعدة عين الأسد الجويّة التي تُديرها الولايات المتحدة في العراق. قبل الهجوم، قام فريق أمريكي في القاعدة بإطلاق عدد من الطائرات المسيّرة للقيام بدوريّة في المنطقة المحيطة. وقد سبّب هذا الأمر خسارة طاقم التحكّم سيطرته على سرب الطائرات المسيّرة، ولا حاجة للقول أنّ الطائرات الأمريكيّة المُقاتلة الرابضة في العراق كانت بلا حول ولا قوّة أثناء الهجوم الإيراني. ولنضع الأمر بعبارة بسيطة، نقول أنّ إيران حظيت في تلك اللحظة بسيطرة جويّة فوق القاعدة بفعل تأثير الصواريخ الدقيقة. مُطلقا رشقاتٍ من الصواريخ لتعطيل قواعد إسرائيل الجويّة. سيكون بمقدور بنية إسرائيل الدفاعيّة الفعّالة – "القبّة الحديدية"، والصواريخ البالستيّة التي ستستطيع التسرّب عبر الدرع الدفاعي بإمكانها تقليص قدرات سلاح الجو الإسرائيلي والهجمات الإيرانيّة على قاعدة "عين الأسد" شاهدةٌ على هذا الأمر. في مواجهة الصواريخ الدقيقة، يعدّ الدفاع النشط أمرا ضروريّا لكنه ليس كافيا، ورغم أنّ هذا الحل ممكن من الناحية التقنيّة، إلا أنّه مُكلف للغاية وسيستهلك الكثير من الوقت. أحد الحلول الأخرى يتمثّل في تنويع القدرات الهجوميّة لسلاح الجو الإسرائيليّ وذلك للتعويض عن تراجع قوّاتها الهجوميّة خلال المرحلة الأولى من الحرب المستقبليّة. فإنّ إسرائيل بوسعها القيام بالشيء نفسه. أمّا الصواريخ طويلة المدى، مثل صاروخ "لورا" الذي يبلغ مداه 400 كم، والذي جُرّب مؤخّرا، كُشف النقاب عن أنّ الأمر راجعٌ إلى اعتراضات سلاح الجو الذي يرفض تزويد القوّات البريّة بقدرات قصف مستقلّة يفوق مداها 100 كم. إذا كان ما كشف في المقال صحيحا، فإنّ العقبة في طريق إنشاء "قوّة جويّة بدون طائراتٍ مُقاتلة" ليست عقبة تكنولوجيّة أو عمليّاتيّة ولكنّها مرتبطة بشكلٍ أكبر بالصراع حول المظاهر (البرستيج) والميزانيّات داخل الجيش الإسرائيليّ. إن الحروب حول النفوذ داخل المؤسسة العسكريّة ليست أمرا خاصّا بالجيش الإسرائيليّ فقط. وقد احتاج "البنتاغون" إلى بضعة سنواتٍ حتى يحلّ هذا فقد رفض الجيش هذا المقترح. إنّ الفكرة الشائعة القائلة بأنّ "الصواريخ لا تكسب الحرب"، والتي كانت على الدوام فكرة مشكوكا فيها أصلا، لكنها أقل هشاشة للتهديدات، نظرا لأنها تعتمد على قواعد جويّة ضخمة وغير متحرّكة ومليئة بالأهداف التي يُمكن قصفها.