المبحث الثاني: الأفكار الاقتصادية التي ساهم بها ابن خلدون في الفكر الاقتصادي. المطلب الأول: نظرية القيمة والأثمان عند ابن خلدون وهي من أدق النظريات الاقتصادية، ويعد ابن خلدون رائداً في علم الاقتصاد، ونلقي الضوء على إضافات ابن خلدون فيها : الفرع الأول: العمل هو المقياس الأساسي للقيمة والثروة: فقد حاول ابن خلدون أن يجعل العمل نظرية مستقلة قائمة بذاتها، وإدراكاً منه بأهمية العمل فقد جعله الأساس في تحديد قيم الأشياء من سلع ومنتجات وهو مصدر كل الثروات، وبدونه يستحيل أن يوجد إنتاج، فلا بد في الرزق من سعي وعمل ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه 55. فابن خلدون يرى أن العمل له أهمية فهو الأساس في تحديد قيم الأشياء من سلع ومنتجات، ﴿ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ) (محمد: 47 (38) والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتن به عليه في غير ما آية من كتابه فقال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ . ثم إن ابن خلدون يجعل العمل الإنساني السبب الأول من أسباب الكسب، فهو يقول: «وإما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانية إما في مواد معينة وتسمى الصنائع من كتابة وتجارة وخياطة وحياكة وفروسية، وارتقاب حوالة الأسواق فيها. ويسمى هذا تجارة. فهذه وجوه المعاش وأصنافه، والإنتاج التجاري، وسائر عقود المعاوضة كالجعالة في السبق. ويؤكد ابن خلدون هنا أن الربح ناتج عن التجارة ومنافعها الزمانية والمكانية، أو احتكارها بالتربص فيها لحين الغلاء وهو ما سماه المالكية بالتاجر المحتكر 58 أيا ما كانت السلعة، من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش، وذلك القدر النامي يسمى ربحا ، فالربح إذن: الزيادة في رأس المال نتيجة تقليب المال من حال إلى حال في عمليات التبادل المختلفة، مشروع، وما نتج عن تصرف محرم كان محرماً . الفرع الثاني : ظاهرة تقسيم العمل : فهي تتألف من حلقات أو عمليات متشابكة يكمل بعضها بعضاً، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه، ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه؛ وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وهب أنه يأكله حباً من غير علاج، فهو أيضاً يحتاج في تحصيله أيضاً حبّاً، ويحتاج كل واحد من هذه آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير ويستحيل أن تفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف ، ولكن أرسطو" عندما طالب بتقسيم العمل اعتقد أن أساس هذا التقسيم هو بسبب اختلاف المواهب البشرية الفطرية، وإنما تحدث عن المواهب المكتسبة، ورأى أن الإنسان إذا تكونت له ملكة في حرفة معينة، فهو يقول في الفصل الثاني والعشرون؛ فهو يقول: ومثال ذلك الخياط إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها و رسخت في نفسه، فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة، أو البناء، والسبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس وألوان فلا تزدحم دفعة. فإذا تلونت النفس بالملكة الأخرى وخرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة، نجد أن تشابهاً بينهما في الفكرة، كما أنه ميز بين عناصر الإنتاج: فما يتضح من المقدمة أنه يميز بين عناصر الإنتاج الرئيسة، العمل ورأس المال، واعتبره ضمناً أهم العناصر الإنتاجية، وكذا قدرة الحمار والثور وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته وجعل للإنسان عوضاً من ذلك كله الفكر، واليد؛ « والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتن ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف. ) (العنكبوت: 29 17) وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله ". فابن خلدون يتحدث في هذه الفقرة عن الأموال الوافرة المجانية غير المملوكة لأحاد الناس؛ بل هي هبة الله تعالى؛ الشمس وحرارتها، والسمك في البحار، والصيد في الفلاة؛ وهي هبات ربانية مجانية لسائر الخلق، بموجب عقد الاستخلاف، ولذلك قال: « وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا فالسمك في البحر مال حر قبل اصطياده؛ والماء في البحر مال حر قبل تحليته، ومال اقتصادي بعد تحليته، والكلاً في الأرض مال حر قبل حيازته، ومال اقتصادي بعد حيازته، ولا يخلو منتج من المنتجات، أو مال من الأموال الاقتصادية، من أموال حرة تدخل فيه 7. غير أنه كبقية الاقتصاديين الذي عاشوا في تلك العصر لم يتطور لديهم تدريج عناصر الإنتاج تبعاً للنظرية الكلية للاقتصاد الإسلامي المنبثقة الفرع الثالث: أنواع النشاط الاقتصادي كما يراه ابن خلدون في الفصل الذي كتبه عن وجوه المعاش وأصنافه، ثم ألقى إضاءات على هذه القطاع، ننقل شيئاً من توضيح فكرته فيها: فهو يقول بعد ديباجة الفصل: « ويختص منتحله بالمذلة قال وقد رأى السكة ببعض دور الأنصار : عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِي، وترجم عليه باب ما : يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو تجاوز الحد الذي أمر به. فيكون الغارم ذليلاً بائساً بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة». ولا عن الفهم الصحيح للحديث كما سأذكره في التعليق التالي فالزراعة لا تحتاج إلى مهارات خاصة، وهي بسيطة وطبيعية، والتجارة تحتاج إلى جاه ومال، وإلى مهارة خاصة في التعامل في الأسواق وعبارة ابن خلدون " أنه جعلها معاش المستضعفين، يمكن أن تفسر بأكثر من طريقة فهي لا تحتاج إلى مهارات خاصة، وأن الغرض الأساس من هذا النشاط هو الحصول على السلع الغذائية الضرورية، فهو يتصور أن المجتمع كلما تقدم يعمل كل فرد على توفير هذه السلع الغذائية فيزداد المعروض منها، بسبب مقارنته بالنشاطات الأخرة؛ كالتجارة التي تحتاج إلى جاه ومال ومهارة في التعامل مع الأسواق، فالتاجر الذي يملكها يغتني أكثر ممن يملك أحدهما، وقدرة التجار على الاستيراد لذات السلع، وكثرة الوسطاء، وأخذهم الأرباح التي تتفتت بينهم فيضيع نصيب المزارع، فهي بهذا المعنى معاش المستضعفين. تعليق: لقد فهم النص النبوي فهماً خاطئ يومئ إلى أننا إذا عملنا بالزراعة أصابتنا الذلة، ولذلك يمكن فهم حديث النبي بأحد المعاني التالية: 1. أن الاشتغال بالزراعة وترك الجهاد في سبيل الله تعالى وترك الفروسية وخاصة في البلاد المتاخمة للعدو، حتى ولو كانت الزراعة بعلية، وهو ملاحظ في دنيا الناس. فهو يقول: «الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري وبكونه عمليا هو جسماني محسوس، (. وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته. ، والملاحظ أن ابن خلدون يريد بالصناعة معنى أوسع مما هي مستعملة في حياتنا المعاصرة، فهو يقول بأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صنائع تختص بتلبية احتياجات المعيشة المباشرة، ومثالها عنده الحياكة، والجزارة، وأمثالها؛ كإنشاء المباني. صنائع تختص بالأفكار، يضرب لها أمثلة حرف استنساخ الكتب وتجليدها، والشعر، تعليم العلم وأمثالها. والقسمين الأخيرين نطلق عليهما "النشاطات الخدمية". ثم حلل ابن خلدون أصحاب النشاطات الخدمية، ويشرح ابن وإن احتيج إلى الفتيا والقضاء في الخصومات فليس على وجه الاضطرار والعموم، فهو يرى أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية هامة جداً في تحديد الطلب على عمل أي فئة من فئات المجتمع، ولكنه لا يساويهم بالجنود والأمراء في الدولة بما يخصهم من رواتب وأعطيات. . الثاني: الذي يجعل رواتبهم منخفضة هو كما يقول: « وهم أيضاً لشرف بضائعهم أعزة على الخلق، وعند نفوسهم فلا يخضعون 7% لأهل الجاه، بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك بل ولا يسعهم ابتذال