كانت هناك إجابات بشرية متنوعة للسؤال: «من هو يسوع الناصري؟»، ومهما كان الجواب فلا يستطيع أحد الهروب من حقيقة أن يسوع عاش حقاً وأن حياته أحدثت تغييراً جذرياً في التاريخ البشري على مدى الدهر. ويوضح ذلك المؤرخ العالمي الشهير جاروسلاف بيلكان: «بغض الطرف عما يعتقده أو يعتنقه أي شخص بشأن يسوع الناصري، فماذا يتبقى منه؟ فميلاده صار رأساً للتقويم البشري، ويبدأ بالكنيسة -جسد المسيح- وهي التراث الأساسي الذي تركه يسوع للعالم. ثم ينتقلا إلى دراسة المتغيرات التاريخية التي تبين تأثير الكنيسة. - انتشار التعليم بين طبقة عامة الشعب. - العلم الحديث. - اكتشاف العالم الجديد على يد كولمبس. - أعمال الخير والرحمة، - تمثيل وكتابة الكثير من لغات العالم. ومن الأمثلة المؤسفة لذلك الاضطهادات التي كانت تلقاها إحدى الطوائف من قِبَل طائفة أخرى. غير أن الإيمان المسيحي كان أحد الدوافع الرئيسية لعمالقة وأبطال التحرر من الفصل العنصري مثل إبراهام لنكولن ومارتن لوثر كنج. وبالمقارنة فإن أتباع يسوع قد خطوا خطوات واسعة وقدَّموا التضحيات للارتقاء بحياة الآخرين. واعظاً نشطاً يؤدي رسالته بين الفقراء في أحياء لندن الفقيرة. وعليك أن تفعل المثل». وأخيراً وصل العدد إلى شخص واحد. ابناً لامرأة مزارعة. وبعد ذلك وعلى مدى ثلاث سنوات كان يجول مبشراً. لم يتعلم في مدرسة ولم يزر إحدى المدن الكبرى ولم يسافر أبعد من مائتي ميل عن مسقط رأسه. ولم يفعل أي من الأشياء التي تصاحب العظمة. وأنكره أحدهم. وسمِّر على صليب بين لصين. وعند موته، وكل الأساطيل التي أبحرت، وكل الملوك الذين حكموا، 7, 8). فماذا كان يعتقد يسوع في نفسه؟ وكيف كان يراه الآخرون؟ من كان هذا الشخص الفريد؟ من هو يسوع الناصري؟ فلم يكن هذا الأمر يحتمل الحيادية أو التهاون في تقدير الأدلة. توصل إلى هذه الحقيقية س. لويس أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة كمبردچ واللا أدري السابق في كتابه «المسيحية الخالصة». وبعد استعراض بعض الأدلة فيما يختص بهوية يسوع كتب لويس يقول: (Lewis, MCص 52, 40, هورت إلى أنه مهما كنا نعتقد في يسوع، ولم تكن ذات معنى كعبارات مجردة للحقيقة نطق بها كنبي أو وسيط للوحي الإلهي. WTL, عن فكرة هورت نفسها بقوله: «ليست تعاليم يسوع هي التي تجعل منه شخصية متميزة، فلا يمكن فصل الاثنين عن بعضهما» (Latourette, ولكننا لا يمكن أن نفصلها عن شخصه، من وجهة نظره، دون أن نفسدها» (Latourette, AHC, 2(أ) احتمالات ثلاثة يعتقد البعض أن يسوع هو الله لأنهم يؤمنون أن الكتاب المقدس موحى به من الله، وبما أنه يعلِّم بأن يسوع هو الله، إذاً فلابد أنه الله- ومع أنني أنا أيضاً أؤمن أن الكتاب المقدس كله هو كلمة الله الموحى به، والسبب هو ما يلي: لقد رأينا بالفعل أن أسفار العهد الجديد صحيحة وموثوقة من الناحية التاريخية حتى أن شخصية يسوع لا يمكن رفضها كمحض أسطورة. إذ أن نصوص الإنجيل تسجل بدقة الأشياء التي فعلها والأماكن التي زارها والكلمات التي تفَّوه بها. كما صرَّح يسوع بأنه الله (انظر الجزء الثاني - الفصل السادس). وليس الجميع يقبلون جواب بطرس، وسوف نناقش كل احتمال منفرداً ثم نناقش البراهين. إذاً فهو كان كاذباً. ولكن لو أنه كان كاذباً، لكان منافقاً أيضاً، لأنه كان يعلم الآخرين الأمانة مهما كانت التكاليف، بينما يحيا هو ويعلم بكذبة كبيرة في ذات الوقت. فإنه كان شيطاناً، ولو أنه لم يكن قادراً على تأييد ادِّعاءاته وعلم أنها كذب، فلابد أنه كان شريراً بما يفوق الوصف. وأخيراً فلابد أنه كان أحمقاً أيضاً، - مرقس 14: 61- 64 فسأله رئيس الكهنة أيضاً وقال له أأنت المسيح ابن المبارك؟. فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ قد سمعتم التجاديف ما رأيكم. فالجميع حكموا عليه أنه مستوجب الموت». - يوحنا 19: 7 لو كان يسوع رجلاً كاذباً مخادعاً، لقد اعترف چون سيتوارت مل، ويجدر بنا الاهتمام به ومحاكاته. وتمتزج هذه العبقرية الفذة بسمات ربما كانت لأعظم مصلح أخلاقي وشهيد لهذه المهمة عاش على أرضنا، ولا يمكن القول بأن الدين قد أخطأ الاختيار باختياره لهذا الرجل كمثال ودليل للبشرية، كما أنه ليس من السهل، أن يعثر على تجسيد حي لحكم الفضيلة من المجرد إلى الملموس أفضل من محاولة السير في الحياة وفقاً لم يمكن أن يرتضيه المسيح في حياتنا (Grounds, يذكر للمسيحية أنها قدمت للعالم الشخصية المثالية التي ملأت على مدى ثمانية عشر قرناً حافلة بالتغيرات قلوب البشر بالمحبة النابضة، وبرهنت على قدرتها على التأثير على جميع العصور والأمم والأمزجة والظروف، HEMFAC, Grounds, عندما فحص المؤرخ الكنسي فيليب شاف براهين ألوهية يسوع، ولا يمكن لهذا الفرض أن يصمد ولو للحظة أمام نبل يسوع وسموه الأخلاقي الذي يظهر في كل كلمة قالها وكل عمل عمله، هذا السمو الذي عرف به الجميع في كل الدنيا. فكيف يمكن له أن يكون متحمساً أو مجنوناً وهو الذي لم يفقد اتزان عقله ولو مرة، وقيامته في اليوم الثالث، وسكب الروح القدس وتأسيس كنيسته، وخراب أورشليم. يكون المؤلف أعظم من بطل قصته. HCC, ويسوق الأدلة لتفنيد هذا الادِّعاء: تنافي فرضية الخداع الحس الأخلاقي وكذلك الإدراك البشري العام تماماً حتى أن مجرد القول بها ينقضها. ولا يجرؤ أي عالم يتسم باللياقة واحترام الذات على التصريح بها. ففي ضوء المنطق والفطرة والخبرة كيف يمكن لمحتال مخادع وأناني ومنحرف أن يخترع ويعمل من البداية إلى النهاية في تناغم تام على تمثيل أطهر وأنبل شخصية عرفها التاريخ تتسم بالحق والصدق إلى أقصى الحدود؟ فكيف كان يمكن له أن يتصور وينفذ بنجاح مخططاً للخير والسمو الأخلاقي والرفعة، ويضحي بحياته من أجل هذا المخطط في مواجهة أعتى أشكال الظلم من شعبه وعصره؟ (Schaff, TPOC, 94, 95). الإجابة بالطبع أنه لم يكن محتالاً! إن شخصاً عاش كما عاش يسوع، فما هي إذاً الاحتمالات الأخرى؟ 2(ب) هل كان مجنوناً؟ ولكننا يجب أن نتذكر أنه بالنسبة لشخص يعتقد أنه الله وخاصة في إطار ثقافي يؤمن بشدة بعقيدة التوحيد، ثم يعلِّم الآخرين أن مصيرهم الأبدي يعتمد على إيمانهم به، ويعرض الفيلسوف المسيحي بيتر كريفته لهذا الاحتمال، ثم يوضح لماذا يتحتم علينا رفضه: إن معيار الاعتلال العقلي لأي شخص هو مدى اتساع الفجوة بين ما يعتقد أنه يكون وما هو عليه بالفعل. فإن كنت أنا أعتقد أنني أعظم فيلسوف في أمريكا، فإنني فقط أحمق متعجرف، وحتى بين الإنسان والفراشة. إن حكمة وفطنة وجاذبية يسوع تتبدى من الإنجيل بقوة فائقة لأي شخص إلا للقاريء المتعنت المتجنِّي. هناك ثلاث صفات خاصة يتمتع بها يسوع بوفرة لا يمكن أن تتوافر للكذبة والمجانين: 1) حكمته العملية وقدرته على قراءة قلوب البشر. (2) محبته العميقة الجذابة وعطاؤه الرؤوم وقدرته على اجتذاب البشر إليه وجعْلهم يشعرون بالراحة والغفران وسلطانه «ليس كالكتبة». إن الكذَبة والمجانين يمكن التنبؤ بأفعالهم وسلوكياتهم! ليس أحد يعرف كلا من الإنجيل والطبع البشري، أو إنساناً شريراً. FOTF, 60, إلا أن هذا التشابه غير موجود. كل شيء في المسيح يدهشني. فهو حقاً كائن مستقل بذاته. كلما تبينت أكثر أن كل شيء فيه أعلى مني، وعبثاً أفتش في التاريخ لأجد نظيراً ليسوع المسيح أو أي شيء يمكن أن يرقى إلى مستوى الإنجيل. فلا التاريخ ولا البشرية ولا العصور ولا الطبيعة تقدم لي شيئاً يمكنني أن أقارنه به أو أفسِّره. فكل شيء فيه فائق للطبيعة. أما وليم شاننج فرغم كونه رافضاً لعقيدة التثليث ومؤمناً بالفلسفة الإنسانية. فقد رفض نظرية الجنون كتفسير غير مقبول لشخصية يسوع: فهذه السمة تتخلل جميع ملامح تفوقه، فكم كان هادئاً في تقواه! اذكر لي، إذ كنت تستطيع، ولو حالة واحدة عبَّر فيها المسيح بعنف عن مشاعره الدينية. وخيريته أيضاً، كانت هادئة رصينة ولم يفقد كمالك نفسه أبداً في تعاطفه مع الآخرين، 99). القوي الصحيح المستعد دوماً والمسيطر دوماً- أن يكون عرضة للتطرف أو الخداع وهو يعلن شخصيته ورسالته؟ إن مثل هذا الظن ليتنافى تماماً مع العقل!» (Schaff, TPOC, وتروق لي الكيفية التي يعبر بها ج. فيشر طبيب الأمراض النفسية عن ذلك: لو أنك جمعت كل ما كتبه أفضل علماء النفس والأطباء النفسيين في مجال الصحة العقلية -لو أنك جمعتها وقمت بتنقيتها وأزلت ما بها من شوائب القول- لو أنك جمعت قمحها وتركت زوانها، ولو أن هذه المعرفة العلمية الخالصة الصافية عبر عنها أرفع شعراء العصر منزلة، فسوف تحصل على بعض الأجزاء المشوهة وغير المكتملة للموعظة على الجبل. ولن تقوى على الصمود إذا ما قورنت بها. (Fisher, 273). ليس لمجنون أن يكون مصدراً لمثل هذه البصيرة النفسية الفعالة والواعية. إن س. لويس على حق عندما يقول إن التفسير المسيحي لشخص المسيح هو وحده الصحيح: «إن الصعوبة التاريخية في تقديم تفسير لحياة وتعاليم وتأثير يسوع هي صعوبة كبيرة للغاية، إذ أن التفاوت بين عمق وصحة وحكمة تعاليمه الأخلاقية وبين جنون العظمة المفرط الذي يحاول أن يثبت تعاليمه اللاهوتية، فإذا ما لم يكن هو الله بالفعل لم يكن تفسيره مرضياً أبداً. أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم» (يوحنا 11: 27). - قال مرقس في افتتاحية إنجيله: «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله» (مرقس 1: 1). ظهر على مسرح التاريخ من ادَّعوا أنهم آلهة ومخلصون ولكنهم مضوا واختفوا، يصل توينبي أخيراً إلى يسوع المسيح ويجد أنه لا وجه للمقارنة: