لا بد أنني كنت صغيراً جداً حينذاك، ولكنني أذكر أن الناس حين كانوا يرونني مع جدي كانوا يربتون على رأسي، العجيب أنني لم أخرج أبداً مع أبي، إلا في الصباح حيث كنت أذهب إلى المسجد لحفظ القرآن، أغلب أندادي كانوا يتبرمون بالمسجد وحفظ القرآن، ولكنني كنت أحب الذهاب إلى المسجد، لا بد ان السبب انني كنت سريع الحفظ، وكان الشيخ يطلب مني دائماً أن أقف واقرأ سورة الرحمن كلما جاء زائر. وكان الزوار يربتون على خدي ورأسي، تماماُ كما كانوا يفعلون حين يرونني مع جدي. وكنت أحبه وأتخيل نفسي حين أستوي رجلاً، أذرع الأرض مثله في خطوات سريعة. وأظن جدي كان يؤثرني دون بقية أحفاده، فأولاد أعمامي كانوا أغبياء، وكنت أنا طفلاً ذكياً، كنت أعرف متى يريدني جدي أن أضحك، كنت أتذكر مواعيد صلاته، فأحضر له "المصلاة"، وأملأ له الإبريق قبل أن يطلب مني. كان يلذ له في ساعات راحته ان يستمع إليّ أقرأ له من القرآن بصوت منغم. وكنت أعرف من وجه جدي أنه ايضاً كان يطرب له. قلت لجدي: "أظنك لا تحب جارنا مسعودا؟" فأجاب بعد أن حكَّ طرف أنفه بسبابته: "لأنه رجل خامل، قلت له: "وما الرجل الخامل؟" فأطرق جدي بُرهة ثم قال: - "انظر إلي هذا الحقل الواسع، نعم يا بني، ثلثاها الآن لي أنا.- النساءوشعرت من نطق جدي للكلمة أن النساء شيء فظيع.- مسعود يا بني رجل مزواج، كل مرة تزوج امرأة باع لي فداناً او فدانين. وتذكرت زوجاته الثلاث، وجلبابه الممزق الأيدي. وكدت أتخلص من الذكرى التي جاشت في خاطري لولا أنني رأيت الرجل قادماً نحونا، فنظرت إلى جدي ونظر إليّ. ألا تريد أن تحضر؟" ولكن جدي هب واقفاً، شدّني من يدي، وذهبنا إلى حصاد تمر مسعود. كنت أعرفهم كلهم، ولكنني لسبب ما أخذت أراقب مسعوداً. كان واقفاً بعيداً عن ذلك الحشد كأن الأمر لا يعنيه، مع أن النخل الذي يحصد كان نخله هو، وأحياناً يلفُت نظره صوت سبيطة ضخمة من التمر وهي تهوي من علِ. ومرة صاح بالصبي الذي استوى فوق قمة النخلة،ولم ينتبه أحد لما قال.واستمر الصبي الجالس فوق قمة النخلة يُعمل منجله في العُرجون بسرعة ونشاط، وأخذ السبط يهوي كشيء يسقط من السماء. ولكنني أنا أخذت أفكر في قول مسعود "قلب النخلة"، له قلب ينبض. وتذكرت قول مسعود لي مرة حين رآني أعبث بجريد نخلة صغيرة: "النخل يا بني كالآدميين يفرح ويتألم". وشعرت بحياء داخلي لم أجد له سبباً، ولما نظرت مرة أخرى إلي الساحة الممتدة أمامي رأيت رفاقي الاطفال يموجون كالنمل تحت جذوع النخل، يجمعون التمر ويأكلون أكثره، واجتمع التمر أكواماً عالية، وعددت منها ثلاثين كيساً، وانفضّ الجمع عدا حسين التاجر، وموسى صاحب الحقل المجاور لحقلنا من الشرق، وأخذوا يفحصونه، وبعضهم أخذ منه حبة أو حبتين فأكلها. وأعطاني جدي قبضة من التمر فأخذت أمضغه، ثم يعيده إلى مكانه. ورأيتهم يتقاسمون: حسين التاجر أخذ عشرة أكياس، والرجلان الغريبان كل منهما أخذ خمسة أكياس، ولم أفهم شيئاً. ونظرت إلى مسعود فرأيته زائغ العينين، تجري عيناه شمالاً ويميناً كأنهما فأران صغيران تاها عن جحرهما.وقال جدي لمسعود: "ما زلت مديناً لي بخمسين جنيهاً نتحدث عنها فيما بعد". ونادي حسين صبيانه فجاؤوا بالحمير، والرجلان الغريبان جاءا بخمسة جمال، ونهق أحد الحمير، وأخذ الجمل يرغي ويصيح. وشعرت بنفسي اقترب من مسعود، وشعرت بيدي تمتد إليه كأني أريد أن ألمس طرف ثوبه. ولست أدري السبب، وعدوت مبتعداً، وشعرت أنني أكره جدي في تلك اللحظة.وأسرعت العدو كأنني أحمل في داخل صدري سراً أود أن أتخلص منه. ولست أدري السبب،