وخاتم الرُّسل محمد -عليه الصلاة والسلام- يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل من عام الفيل، وقد رأت أمّه حين ولادته كأنّ نوراً يخرج منها تُضيء له قصور الشام، وقد نشأ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في قومه يتيماً دون أب؛ فقد ظلَّ مع أمّه التي سَعَت إلى التماس المَراضع له منذ صِغره، فأرضعته مُبكِّراً مَولاة أبي لهب، ثمّ أخذته أمّه إلى ديار بني سعد؛ فأرضعته هناك السيّدة حليمة السعديّة، وبقيَ عندها زماناً، وحصلت له في تلك الديار حادثة شَقّ الصَّدر؛ حين أتاه جبريل -عليه السلام-، ثمّ غسلَ القلب بماء زمزم، ١] مكث محمّدٌ -عليه الصلاة والسلام- عند أمّه حتى كتب الله عليها الوفاة؛ وذلك حينما كانت برفقة نبيّ الله في زيارةٍ لأخواله من بني النجّار في المدينة المُنوَّرة، كَفِلَه جدّه عبد المطّلب، وكان عُمر النبيّ ثمانية أعوام، ثمّ كَفِلَه عمّه أبو طالب، وحينما عاينَ النبيّ فَقْرَ عمّه، فرعى غنمَ قريش زماناً، ثمّ عَمِلَ مع عمّه في التجارة إلى الشام، وفي إحدى رحلاتهم التجارية إلى الشام، لاحظ أحد الرُّهبان حين كان يتعبّد في صومعةٍ له علاماتٍ تدلّ على وجود نبيٍّ في تلك القافلة، فخرج إلى القوم مُخبراً إيّاهم بأمر محمّدٍ -عليه الصلاة والسلام-، وكيف أنّه سيكون نبيّاً في آخر الزمان، والمَبعوث رحمةً للعالَمين، ١] شباب النبيّ اشتُهِر النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في شبابه بالصدق، وعُرِف بهما بين أقرانه، وحينما ذاع صيته بين الناس، أوكلَته السيّدة خديجة -رضي الله عنها- بالتجارة بأموالها، فنجحَ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بإدارة أموالها، وأدرَّ عليها الكثير من الرِّبح بفَضل حِنكته، فدعَته السيّدة خديجة إلى خِطبتها؛ بينما كان عُمرها أربعين سنةً، وظلَّ زوجاً مُخلصاً لها طيلة خمسٍ وعشرين سنةً إلى حين توفّاها الله، وتجدر الإشارة إلى أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- حينما بلغ من عمره خمساً وثلاثين سنةً، فدلّ على حِكمته، حيث اختلفت قبائل قريش عند إعادة بناء البيت في وَضع الحجر الأسود، فقد أرادت كلّ قبيلةٍ أن تحوز شرفَ نَقل الحجر، فاختلفوا إلى نبيّ الله محمّدٍ؛ لحَلّ النِّزاع بينهم، فأشار عليهم أن يضعوا الحجر الأسود في رِداءٍ، وتُمسك كلّ قبيلةٍ بطَرفٍ منه، فوافقوا على رأي النبيّ، ٢] تعبُّد النبيّ في غار حراء حُبِّبت إلى النبيّ -عليه الصلاة والسلام- الخُلوة مع ربّه، فكان يتعبّد على دين الحنيفيّة الليالي ذوات العدد في غار حراء، وكانت أوّل عهده بالوحي الرؤيا الصادقة؛ فيتحقّق في الواقع كفَلق الصُّبح، وبينما كان النبيّ في غار حراءٍ، وكان يبلغ أربعين سنةً من عُمره آنذاك، إذ بجبريل -عليه السلام- يتنزّل عليه من السماء، ثمّ يُعيد جبريل عليه الأمر مرّتًين، ثمّ تتنزّل عليه أولى آيات الوَحي على لسان جبريل -عليه السلام-، وهي قَوْله -تعالى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)، ٣] ثمّ يعود النبيّ بعد تنزُّل تلك الآيات عليه إلى السيّدة خديجة خائفاً مُرتعِداً، وتُذكّره بأخلاقه بين الناس، ومَن كان ذلك حاله فلا يُضيّعه الله، ثمّ ذهبت معه إلى ابن عمّها؛ وكان رجلاً نصرانيّاً عنده عِلمٌ من الكتاب، فأدرك بعلمه أنّ ذلك ما هو إلّا الناموس الذي أُنزِل على موسى -عليه السلام-، فازداد النبيّ ثباتاً على أمره. ٤][٥] أحداث الدعوة المكّية نزول الوَحي على النبيّ نزل الوحي على النبيّ محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- أوّل مرّةٍ؛ ثمّ رجع جبريل -عليه السلام- بالوحي بعد ستّة أشهرٍ؛ إيذاناً ببَدء مرحلة الدعوة والرسالة بعد أن هيّأه لنزول الوحي من قبل، وقد دلّ على الرسالة في تلك المرحلة وغايتها قَوْله -تعالى-: (قُمْ فَأَنذِرْ)؛ ٦] فالقيام يستدعي التهيُّؤ لتلك المرحلة، واستحضار جميع المعاني التي تُعين على أداء مَهامّها من الإخلاص، ٧] الدعوة السرّية بعد نزول الوحي والأمر بالدعوة، وذلك في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنذِرْ)، ٨] بدأ النبيّ واجبات الدعوة، وأعباءها بإنذار الناس؛ كي لا يُعرّضهم الجَهر بالإسلام للهلاك، والقَتل على يد قريش التي تعصّبت لعبادة الأصنام، وقد استمرّت هذه الدعوة سرّاً مدّة ثلاث سنوات. ٩] جَهْر النبيّ بالدعوة بدأ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- الجَهْر بالدعوة إلى الإسلام حينما نزل قَوْله -تعالى-: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)؛ ١٠] فانطلق النبيّ لدعوة قومه؛ حيث وقف على جبل الصفا منادياً إيّاهم؛ فخطب فيهم النبيّ مُختبراً مكانته فيهم، ومدى مصداقيّته عندهم، حيث استفهم ابتداءً عن تصديقهم إيّاه إن حذّرهم من خيلٍ قادمةٍ بسفح الجبل تريد أن تُغير عليهم، فأجاب القوم كلّهم بتصديقه في ذلك، فقال لهم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بأنّه مُنذِر لهم من عذاب الله إن استمرّوا على حالهم. ١١] إيذاء قريش بدأت قريش بإيذاء المسلمين منذ أن جَهَر النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بدعوته، ولم تَأْلُ خلال سنينٍ عشرٍ جُهداً في إيذاء المؤمنين، واللمْزِ بهم قولاً، ولم يسلم صاحب الدعوة والرسالة من الأذى؛ فقد نال نصيباً وافراً من الاتِّهامات الباطلة، والتشهير الأرعن؛ وعانى أصحابه من الظُّلم، ١٢] الهجرة الى الحَبَشة والمُقاطعة حينما اشتدَّت معاناة المسلمين؛ جرّاء ازدياد تعذيب قريش لهم، رَخَّص لهم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في الهجرة إلى الحبشة إلى أن يُحدث الله لهم من أمرهم فَرَجاً، وكانت بلاد الحبشة تَدين بالنصرانيّة، ويحكمها ملكٌ عادلٌ رَفيقٌ بالناس، فهاجر إليها المسلمون مرّتَين؛ إذ بلغ عددهم في المرّة الأولى اثني عشر رجلاً وأربع نِسوة، بينما بلغ عددهم في المرّة الثانية ثلاثة وثمانين رجلاً وإحدى عشرة امرأةً، ثمّ اشتدّ الأذى على النبيّ، وقرَّرَت قريش مقاطعة بني هاشم في شِعاب مكّة؛ ثمّ شاء الله أن يرفع تلك المقاطعة بتسخير أحد العقلاء؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ حدث الهجرة إلى المدينة كانت قد سبَقَته وفاة عمّ النبيّ؛ وذلك في السنة العاشرة من البعثة النبويّة، ودَفعه أذى قريش عنه، ثمّ تُوفِّيت في السنة ذاتها السيّدة خديجة -رضي الله عنها-، فسُمِّيت تلك السنة (عامَ الحُزن) بسبب ذلك. ١٣] خروج النبيّ إلى الطائف اشتدّ الألم والعذاب على النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، وقلّ النَّصر بغياب عمّه أبي طالب، فقرّر النبيّ الذهاب إلى الطائف؛ إلّا أنّه لم يجد من قومها سوى الأذى والتنكيل؛ إذ رَمَوه بالحجارة، وأغرَوا به سفهاءهم وصغارهم، فعاد النبيّ إلى مكّة المُكرَّمة مرّةً أخرى؛ ١٣] ثمّ حدثت مع النبيّ معجزة الإسراء والمعراج التي جاءت؛ فقد أُسرِي بروح النبيّ وجسده في إحدى الليالي من مكّة المُكرَّمة إلى بيت المَقدس، ثمّ عُرِج به إلى السماء؛ حيث مَرّ بالأنبياء كلّهم، وفُرِضت على المسلمين في تلك الليلة أهمّ عبادةٍ ورُكنٍ من أركان الإسلام؛ ١٤] مُلخَّصٌ عن السيرة النبويّة بعد الهجرة الهجرة إلى المدينة المُنوَّرة استمرّ النبي بالدعوة إلى الإسلام بعد رجوعه من الطائف، وصادف أن قابل شباباً من المدينة المُنوَّرة كانوا قد قدِموا للحجّ، وفي بداية الأمر أَذِن النبيّ لأصحابه بالهجرة، فخرجوا من مكّة إلى المدينة سرّاً، ثمّ خرج منها هو وصاحبه أبو بكر الصديق، ولَمّا علمت قريش بخروج النبيّ إلى المدينة، ثمّ وصل إلى المدينة بسلام. ١٥] بناء المسجد أَذِن الله -تعالى- للنبيّ -عليه الصلاة والسلام- بالهجرة من مكّة إلى المدينة، وكان أوّل الأعمال التي اهتمّ بها النبيّ بناء المسجد؛ حيث بركت ناقته في أرضٍ لغُلامَين يتيمَين، ١٦] المُؤاخاة بين المُهاجرين والأنصار بنى النبيّ -عليه الصلاة والسلام- المسجدَ، ثمّ حقَّق عملاً جليلاً أرسى من خلاله دعائمَ الأُخوّة بين المسلمين؛ وذلك حينما آخى بين المُهاجرين، في دار أنس بن مالك -رضي الله عنه-، فأصبح المسلمون في المدينة إخواناً يتشاركون مع بعضهم لقمة عيشهم، وكانت تلك المُؤاخاة حَلّاً للضائقة المالية التي حَلّت بالمُهاجرين بعد تَرْكهم أموالَهم في مكّة. ١٦] غزوات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَذِن الله -تعالى- لنبيّه -عليه الصلاة والسلام- بقِتال المشركين من قبائل العرب بعد استقراره في المدينة المُنوَّرة، فبدأت تلك الغزوات بغزوةٍ كُبرى انتصرَ فيها المسلمون؛ واستمرّت تلك الغزوات حتى بلغت ما يقارب خمساً وعشرين غزوةً، إذ انطلقت شرارتها في اليوم العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة؛ حينما نقضت قريش اتِّفاقها مع رسول الله؛ بقتال حُلفائه من بني خُزاعة، فاستنفر النبيّ أصحابه؛ لإعداد جيشٍ بلغَ قِوامه عشرة آلاف مُقاتلٍ، ودخل النبيّ -عليه الصلاة والسلام- البيت الحرام، ثمّ وقف خطيباً في القوم عافياً عنهم، مُطلِقاً سراحهم بقَوْله: "اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء". ١٧] وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قصدَ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- البيت الحرام في مكّة المُكرَّمة؛ لأداء مناسك حجّته الوحيدة التي أدّاها في السنة العاشرة للهجرة، إيذاناً للناس بتطهير البيت الحرام من الشِّرك، وبداية مرحلةٍ جديدةٍ من الطُّهر، إيذاناً لرسول الله بقُرب حلول أَجَله؛ إذ وقف بين الناس خطيباً يُوصيهم بمجموعةٍ من الوصايا الخالدة، وتجدر الإشارة إلى أنّ الشكوى ابتدأت عند رسول الله في آخر شهر صفر من السنة الحادية عشر للهجرة؛ فاستأذن أزواجَه بأن يُمرَّض في بيت أمّ المؤمنين السيّدة عائشة -رضي الله عنها-، وأوكلَ إمامةَ المسلمين في صلاتهم أثناء مَرضه لأبي بكرٍ الصدِّيق -رضي الله عنه-،