سواء في ذلك خَلْقه وخُلُقه وعلمه. يغشى المجلس فيتعثر في مِشْيَته، ويصادف أول مقعد فيرمي بنفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة، وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين، وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين؛ وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاود الهرب؛ وهكذا دوالَيْك حتى يحين موعد الانصراف، ويتنفس الصُّعَدَاء حامدًا الله على أنه لم يخرَّ صعِقًا، ولم يدركه حَيْنه كربًا وقلقًا. من أجل هذا أكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء، أو يُدْعى إلى وليمة أو يدعو إليها. يشعر أنه عبء ثقيل على الناس وأنهم عبء عليه. يحب العزلة لا كرهًا للناس ولكن سترًا لنفسه، ويأنس بالوحدة وهي تضنيه وتَبريه. ثم هو — مع هذا — جريء إلى الوقاحة، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضُب ماؤه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجرأة أن يجرح حسهم، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز. يحكم من يراه في حالته الأولى أنه أحيا من مخدَّرة، ومن يراه في الثانية أنه أوقح من ذئب وأصلب من صخر، يرمي بهمته إلى أبعد مرمَى، وتَنْزع نفسه إلى أسنى المراتب، وتحفزه إلى أبعد المدارك؛ فيوفر على ذلك همه، وكلما نال منزلة مَلََّها وطلب أسمَى منها. إذ طاف به طائف من التصوف، وسمع قول المتنبي: ولا تَحْسَبَنﱠ المجدَ زِقًّّا وقَيْنَةً فما المجدُ إلا السْيفُ والطَّعْنَة البكْرُ فهزئ به وسخر منه، واستوطأ مهاد الخمول ورضي من زمانه ما قسم له. ومن نار على علم، ويطوي المراحل اسمه، إذا به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حَفْل، ويردد مع الصوفية قولهم: «ادفن وجودك في أرض الخمول، وعاملًا مغمورًا. وتتضاءل نفسه. يتكبر حيث يصغر الكبراء، ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتأله على العظماء حتى تظن أنه نسل الأكاسرة ووارث الجبابرة، لا تلين قناته لكبير، ويكرههم جملة. يدعوه الحب أن يندمج فيهم، ويدعوه الكره أن يفر منهم، فاستهان بهم في غير احتقار. فيحار في شأنه الطبيب، فيحنق على الأطباء ويرميهم بالعجز وما العاجز إلا جسمه لم يستطع أن ينوء بنفسه. أو دكان مبعثر، وضعت فيه النعل القديمة بجانب الحجر الكريم، ثم يدعو إلى التجديد. ويتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب أهل النشوء والارتقاء، ومذهب الاختيار بمذهب الجبر، وحب الغنى بمذهب «أبي ذَرّ». ونسج الزمان عليها خيوطه، وأثر في رأسه. ويؤمن بشاعرية هذا وذاك. يسمع إلى الملحدين فيصغي إليهم، وإلى المؤمنين فيحن شوقًا لذكراهم. ويهمل في صلاته ويحافظ على صومه، والفاجر الداعر والعابد؛ ونقمت منه ورحمته، وأخيرًا، فعاجله الشيب في شبابه، منسرقَ القوى، يظنه من رآه أنه بلغ أرذل العمر، فلم أدركه إلا جنازة، فشيعته إلى أن أنزل حفرته، ضيق الصدر، أخذني من الحزن عليه ما تنقض منه الجوانح، وتنشقُّ له المرائر؛ فعلمت أن حبي له كان أعمق من كرهي إياه، وأن نقمتي عليه لم تكن إلا مظهرًا من عطفي عليه،