عَظِيمٌ مِنَ الْعُظَمَاءِ يَعِيشُ فِي قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ شَاطِى الْبَحْر ، وَكَانَ لِهذَا الْعَظِيم ابْن بَهِىُّ الطَّلْعَة ، مَفْتُولُ السَّاعِدَيْنِ اسْمُهُ ( أَنْوَر » ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ أَضَافُوا إِلَى اسْمِهِ لَقَبَ « شُجَاع » ، فَقَدْ رَأَوْهُ يَوْمًا وَهُوَ بَعْدُ فِي الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ ، يَهْجُمُ عَلَى ذِئْبٍ ضَغْم ، - « يَا سَيِّدِي وَأَبِى ! لَقَدْ بَلَغْتُ الْيَوْمَ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِي ، وَأَوَدُّ لَوْ أُجَرِّبُ حَظِّى فِي الْحَيَاة ، فَأَثَّرَ هَذَا الْكَلَاَمُ فِي تَفْسِ أَبِيه ، - « إِنَّكَ لَعَلَى حَقّ يَا وَلَدِي ، فَمَا كُنْتُ لِأَحُولَ دُونَ رَغْبَتِكَ وَطُمُوحِك ، فَسِرْ تُرَافِقْكَ بَرَكَتِي وَدَعَوَالِي » . وَانْطَلَقَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ مُنْتَهِجَ الْفُوَاد . وَاسْتَمَرَّ يَسِيرُ فِي رِحْلتِهِ مُتَنَقِّلًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ مُدَّةَ ثَلاثِ سَنَوات . وَلَمْ تَغْلُ رِحْلَتُهُ هَذِهِ مِنْ أَشْرَارٍ تَعَرَّضُوا لَه ، وَدَخَلَ مَعَهُمْ فِي صرَاعِ خَرَجَ مِنْهُ تَارَةً غَالِبًا وَطَوْرًا مَغْلُوبًا . وَاتَّفَّقَ لَهُ أَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ يَوْمَا الإِشْتِرَاكُ فِي حَمْلَةٍ بَعْرِيَّة ، هَدَفُهَا تَأْدِيبُ جَمَاعَةٍ مِنْ لُصُوصِ الْبِحَار ، فَسَارَتْ لَيْلًا تَمَخُرُ عُبَابَ الْمَاء ، وَسَمَاءٍ مُرَصَّعَةٍ بِالنُّجُومِ ، وَلَكِنْ أَظْلَمَ الْجَوُّ فَجِأَة ، وَثَارَتِ الزَّوَابِع ، فَارْتَطَمَتِ السَّفِينَةُ بِصَغْرَةٍ كِبِيرَةٍ كَسَرَتْ أَلْوَاحَهَا، فَابْتَلَعَهَا الْبَحْرُ بِمَنْ عَلَيْهَا . أَمَّا صَاحِبُنَا أَنْوَر ) فَقَدْ قَذَفَتْ بِهِ الأَمْوَاجُ إِلَى سَطْحِ الْبَحْر، فَسَبَحَ وَسَبَحَ عَلَى غَيْرٍ هُدى، وَلَاحَتْ لَهُ بُقْعَةٌ سَوْدَاءٍ غَيْرُ وَكَانَتْ إحْدَى الْجُزُر ، فَاسْتَجْمَعَ قُوَاهُ وَنَزَلَ بِالْجَزِيرَة، وَنَامَ نَوْمًا عَمِيقًا. صَحَا أَنْوَر فِى الصَّبَاحِ ، وَأَخَذَ يُجِيلُ بَصَرَهُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِى رَمَاءُ الْقَدَرُ إِلَيْهَا ، فَرَأَى عَلَى مَرْمَى الْبَصر ، فَمَشَى إِلَيْهِ وَقَرَعَ الْبَابِ ، الثَّوْرِ يَقُول : وَعَلَى الأَثَرِ فُتِحَ الْبَابِ، وَدَخَلَ مِنْهُ أَنْوَرِ ، وَوَجَدَ تَفْسَهُ إِذَاءَ عِمْلَاقٍ ' يَبْلُغُ طُولُهُ عَشْرَةَ أَمْتَارٍ ، وَسَمِعَهُ يَقُولُ لَه: - «مَا اسْمُك ؟ وَمَاذًا جِئْتَ تَفْعَلُ هُنَا ؟» فَنَظَرَ إِلَيْهِ أَنْوَر نَظْرَةَ الْمُتَحَدِّى وَقَال : - « اِسْعِى أَنْوَر الشُّجَاع ، وَقَدْ جِئْتُ أَبْحَثُ عَنِ القَّرْوَة » . فَقَالَ لَهُ الْعِمْلَاقُ هَازِئًا سَاخِرًا : - " إِنَّ ثَرْوَتَكَ مَضْمُونَةٌ عِنْدِي يَا أَنْوَرُ الشُّجَاع ، فَأَنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى خَادِمٍ ، فَتَسَلَّمْ عَمَلَكَ فِي الْحَال . وَحَاذِرْ أَنْ تَدْخُلَ غُرَفَ الْمَنْزِلِ فَفِي ذَلِكَ هَلا كُك ! » فَكَّرَ أنْوَرُ بَعْدَ ذَهَابِ الْعِمْلَاقِ وَقَالَ لِنَفْسِه : مَاذَا لَوْ زُرْتُ غُرَفَ الْبَيْتِ أَوَّلا ؟ لَا بُدّ أَنَّ فِيهَا أَشْياء مُمْتِعَةً يُرِيدُ أَنْ يُخْنِيَهَا عَنِّي : فَوَجَدَ فِيهَا مَوْقِدًا كَبِيرًا فَوْقَهُ قِدْرٌ تَغْلِى وَلَا نَارَ فِى الْمَوْقِدِ فَقَال: مَا هَذَا ؟ إِنَّ فِى الْأَمْرِ لَسِرًّا ! فَإِذَا هِيَ قَدِ اسْتَحَالَتْ إِلَى لَوْنِ النُّحَاسِ . فَرَأَى فِيهَا مَا رَآءُ فِي الْأُولَى مِنْ مَوْقِدٍ كَبِير » وَقِدْرٍ فَوْقَهُ يَغْلِى السَّائِلُ فِيهَا غَلَيَانًا ، وَلَا نَارَ تَحْتَهَا، فَغَمَنَ خُصْلَةَ الشَّعْرِ فِي ذلِكَ التَائِلِ وَأَخْرَجَهَا ، فَإِذَا هِيَ بِلَوْنِ الْفِضَّة ، وَكَانَتْ تَخْتَوِى عَلَى تَحْتَوِيهِ الْغُرْفَتَانِ الْأولَيَان ، وَلَكِنَّ خُصْلَةَ الشَّعْرِ قَدْ تَحَوَّلَتْ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ إِلَى لَوْنِ الذَّهَب ، فَضَحِكَ وَقَالَ : مَنْ يَدْرِى لَعَلَّ السَّائِلَ فِي قِدْرِ الْغُرْفَةِ الرَّابِعَة ، يَكُونُ مِنْ عَصِيرٍ الأَلْمَاس ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ فِي شَفَقَةٍ وَأَسَفٍ وَقَالَتْ لَه : - أَلْحَقّي فِي هَذَا الصَّبَاحِ. رَبُّ هْذَا الْبَيْتِ بِخِدّمَتِه ، وَحَصَرَ عَمَلِى فِي تَنْظِيفِ الإسْطَبْل ، وَمَا هُوَ بِالأَمْرِ الْعَسير» فَقَالَت : - « كَانَتِ السَّمَاءُ فِي عَوْنِكَ فَمَا إِلَى تَنْظِيفِهِ مِنْ سَبِيل ، فَكُلُ مِقْدَارٍ مِنَ الزِّبْلِ تُغْرِجُهُ مِنَ الْبَابِ يَرْجِعُ عَشْرَةُ أَضْعَافِهِ مِنَ الثُّبَّاك . وَلَكِنْ سَأَهْدِيكَ إِلَى طَرِيقَةٍ تَنْتِصِرُ عَلَى السِّخْرِ الْمَعْتُودِ فِي هَذَا الإسْطَبْلِ : أُكُنْ أَرْضَهُ يِمقْبَضِ الْمِكْنَسَةِ . فَشَكَرَهَا أَنْوَر عَلَى نَصِيحَتِهَا، وَجَلَسَ إِلَيْهَا يُبَادِلُهَا الْحَدِيث . وَكَانَتْ هَذِهِ الْفَتَاةُ ابْنَةَ جِنِّيَّةٍ اسْتَطَاعَ الْعِمْلَاقُ الشِّرِّيرُ أَنْ تَأُسِرَهَا ، فَلَمْ يَمْضٍ عَلَى أَنْوَر وَكَرِيمَة ( وَهْذَا اسْمُ الْفَتَّاة) غَيْرُ دَقَائِقَ قِلِيلَة ، حَتَّى أَصْبَحَا صَدِيقَيْنِ حَمِيمَيْن : فَالْمَوَدَّةُ سَرِيعَةُ الاتّصَالِ بَيْنَ قُلُوبٍ رُفَقَاءِ الشَّقَاء ، وَوَعَدَ كُلٌ مِنْهُمَا الْآخَرَ أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِهِ إِذَا تَمَكّنَا مِنَ الْغِرَار . وَكَادَ النَّهَارُ يَنْقَضِى وَهُمَا فِي أَحَادِيثَ حُلْوَةٍ شَائِقَة ، فَبَّهَتْ كَرِيمَةُ صَدِيتَهَا إِلَى أَنْ يَقُومَ بِعَمَلِهِ قَبَلَ عَوْدَةِ الْمِمْلَاقِ، فَنَهَضَ مُتَّرَاخِيًا كَاأنَّهُ اسْتَيْقَظَ مِنْ حُلْمٍ جَمِيل ، وَسَارَ إِلَى الإسْطَبْل ، فَانْقَلَبَ الإسْطَبْلُ فِي طَرْفَةٍ عَيْن ، نَظِيفًا لَامِعًا كأَنْ لَمْ تَتَجَمَّعْ فِيهِ قَطُّ قُطْعَانُ الْغَنَم . وَانْتَهَى أَنْوَر مِنْ عَمَلِهِ ، وَجَلَسَ عِنْدَ بَابِ الدَّارِ يَنْتَظِرُ عَوْدَةَ سَيِّدِه . وَعَادَ هَذَا بَعْدَ قَلِيل ، وَرَجَعَ مِنْهُ وَشَرَرُ الْغَضَبِ يَتَطَايَرُ مِنْ عَيْنَيْهِ وَقَالَ يُخَاطِبُ أَنور : "فَتَصَنَّعَ أَنْوَرُ الْبَلَاهَةَ وَقَال : - مَنْ كَرِيمَةُ هَذِهِ ؟ أَهِيَ وَخْشٌ مِنْ وُحُوشِ هذَا فَسَكَتَ الْعِمْلَاقُ وَلَمْ يُجِب ، وَفِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي جَمَعَ أَغْنَامَهِ، وَقَبْلَ أَنْ يْمِضِىَ بِهَا إلَى الْمَرْعَى صَاحَ بِأَنْوَر وَقَالَ لَه: - « عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَنِي الْيَوْمَ بِحِصَانِي الَّذِي تَرَكُتُهُ يَرْعَى فَوْقَ الْجَبَلِ، وَلَكَ أَنْ تَسْتَرِيحَ وَأَخْبَرَهَا عَنْ شُغْلِهِ . فِى ذَلِكَ النَّهَارِ . فَتَبَسَمَتْ وَقَالَت : - " مَا هُوَ بِشُغْلٍ سَهل، فَالْحِصَانُ عَنِيفٌ حَرُون، وَلَكِنَّنِيِ سَأْرْشِدُكَ إِلَى وَسِيلَةِ تُمَكِّنُكَ مِنْه ، فَأَصْعٍ إِلَىَ : سَوْفَ تَرَى مِنْعَرَيْهِ يَقَذِفَانِ النَّارَ وَاللَّهَب ، فَخُذْ مَعَكَ اللِّجَامَ الْمُعَلَّقَ وَرَاءَ بَابِ الإسْطَبْلِ ، وارْم بِهِ بَيْنَ فَكَّيْهِ عِنْدَمَا يَفْتَحُ فَمَهُ يُعتْبِحْ أَطْوَعَ مِنْ حَمَلٍ وَدِيع . فَطَارَ أَنْوَرُ إِلَى الْجَبَلِ وَفِي يَدِهِ الشَّكِيمَة ، يَجْرِى إِلَيْهِ وَمِنْغَرَاهُ يَقْذِفَانِ النَّارَ وَاللَّهَب . فَانْتَظَرَهُ أَنْوَرُ بِقَدَم ثَابِتَة ، رَمَى بِاللِّجَام بَيْنَ فَكَّيْه ، فَهَدَاَ وَسَكَن ، فَقَفَزَ إِلَى ظَهْرِهِ وَعَادَ بِهِ إِلَى الْمَنْزِل ، فَأَدْخَلَهُ الْإِسْطَبْلَ وَسَارَعَ إِلَى كَرِيمَةَ يَقْضِى مَعَهَا بِقِيَّةَ النَّهَارِ فِي شَهِيِّ الْأَحَادِيث . فَلَقِي عِنْدَ الْبَابِ أَنْوَر يَسْتَقْبِلُهُ قَائِلًا : إِنَّ الْحِصَانَ فِى الإسْطَبْلِ يَا سَيِّدِي» . فَتَوَجَّةَ الْعِمْلَاقُ إِلَى الْإِسْطَبْلِ ، وَرَجَعَ مِنْهُ وَهُوَ يُزَمْجِرُ وَيَغُورُ خُوَارَ الثِّيرَانِ وَ يَقُول : - " إِنَّكَ وَلَا شَكََّ قَدْ رَأَيْتَ كَرِيمَة . ! . فَتَصَنَّعَ أَنْوَرُ الْبَلَاقَةَ وَقَال : - «مَنْ كَرِيمَةُ هَذِهِ؟ بِحَقّ السَّمَاءِ إَلَا أَرَيْتَنِي هَذَا الْوَحْشَ الَّذِي تَتَحَدَّثُ عَنْه ! ». فَقَال الْعِمْلَاق : - « سَوْفَ تَرَاهُ غَدًا» . وَلَمْ يَعْهَدْ إِلَى أَنْوَرَ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَال ، الْقِدْرِ الْوَاسِعَةِ وَاطْبُغِيهِ ، ثُمَّ اسْتَلَقَى إِلَى سَرِيرِهِ رَاغِبًا فِي قِطٍ مِنَ الرَّاحَة، وَجَاءَت بأَنْوَر وَجَرَحَتْهُ جُرْحًا صَغِيرًا فِى إِحْدَى أَصَابِعِهِ، إِلَى جَفْنَيْهِ ، فَنَامَ وَغَطَّ غَطِيطًا كانَهُ الرَّعْدُ يُزَلْزِلُ الْجِبَال . وَعَمَدَتْ كَرِيمَةُ إِلَى سِبِكِّينٍ فَأَلْقَيَا فِيهَا كُلَّ مَا كَانَ فِي مُتَنَاوَلِهِمَا، مِنْ ثِيَابٍ بَالِيَة. - " وَالْآنَ سَاعِدْنِي عَلَى مَلْءِ الْقِدْرِ » . وَأَحْذِيةٍ قَدِيمَةٍ وَمَا إِلَى ذَلِك . ثُمَّ قَادَتْهُ إِلَى الْغُرَفِ الثَّلَاث ، وَالْتَقَطَتْ مِنَ الثَّانِيَةِ كُرَةً مِنْ فِضَّة ، وَاسْتَوْلَت مِنَ الثالِثَةِ عَلَى ثَلَاثِ كُرَاتٍ مِنْ ذَهَب ، - « عَلَيْنَا أَنْ نُغَادِرَ هَذِهِ الْجَزِيرَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِلَا هَلَكْنَا » . فَتَحَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ )» فَاسْتَغْرَقَ فِى النَّوْمِ سَاعَةً أُخْرَى أَوْ سَاعَتَيْنِ صَعَا بَعْدَهُمَا وَصَاح : - " يَكَادُ يَنْضَج . ) فَاسْتَسْلَمَ إِلَى النَّوْمِ. ثَانِيَةٌ ، - " وَيْعَكِ يَا كَرِيمَة هَلْ نَضِحَ الطَّعَام ؟» فَقَالَتْ لَهُ نُقْطَةُ الدَّمِ الثَّالِثَة : - « نَضِجَ تَمَامَ النُّضْجِ . )) فَبَحَثَ الْعِمْلَاقُ عَنْ كَرِيمَةَ فَلَمْ يَعْثُرْ عَلَيْهَا ، وَمَضْى إِلَى لْقِدْرِ وَأَلْقَى عَلَيْهَا نَظْرَةً فَاحِصَة ، فَهَالَهُ أَنْ يَوَى فِيهَا عَدَدًا مِنَ الْأَحْذِيَةِ وَالْمَلَابِس ، فَتَمَلَّكَهُ غَضَبٌ شَدِيدٌ وَصَاحَ فَلَمَحَهُمَا بَعْدَ قلِيل ، فَالْبَحْرُ غَيْرُ بَعِيد ، وَسَوْفَ نَبْلُغُهُ قَبْلَ عَدُوِّنَا ». فَقَالَتْ لَهُ مُشِيرَةً إِلَى الْعِمْلَاقِ الَّذِي كَانَ عَلَى بُعْدِ خُطُوَاتٍ مِنْهُمَا : - « أُنْظُرْ . . . هَا هُوَذَا . إِنَّنَا هَالِكَانِ إِذَا لَمْ يُنْقِذْنَا هذَا السِّحْر !» وَتَنَاوَلَتْ كُرَةَ النُّحَاسِ وَرَمَتْ نِهَا إلَى الْأَرْضِ وَهِيَّ تَقُول : يَاكُرَةَ النُّحَاسِ فَانْشَقَّتِ الْأَرْضُ عَلَى الْفَوْر ، وَأَحْدَثَتْ فَجْوَةً عَمِيقَةً بَعْدَ وَتَابَعَ الْهَارِبانِ رَكْضَهُمَا إِلَى الْبَحْر ، فِي حِينَ كَانَ الْعِمْلَاقُ ، وَقَدْ بَلَغَ بِهِ الْهِبَاجُ أَشَدَّهُ، وَرَمَاهَا فَوْقَ الْفَجْوَةِ وَإِتَّخَذَهَا جِسْرًا طَبِيعِيًّا مَشَى. وَاجْتَازَ الْهُوَّةَ إِلَى الْجَانِبِ الْآَخَر . وَكَانَ أَنْوَر وَكَرِيمَة قَدْ وَصَلَا فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ إِلَى الثَّاطِئ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَيَالَلأَسَف، زَوْرَقٌ وَلَا فَخَابَ رَجَاؤُهُمَا ، وَلَمْ تَفْقِد كَرِيمَة وَعْيَهَا ، يَا كُرَتِى الْغِضِيَّةَ عَوْنَكِ فِي الْبَلِيَّه فَمَا كَادَتْ تَنْطِقُ بِهذِهِ الْجُمْلَةِ السِّحْرِيَّة، حَتَّىَّ انْبَثَقَ مِنَ الأَمْواجِ ، وَحِينَمَا بَلَغَ الْعِمْلَاقُ الثَّاطِئَ ، كَانَتْ هذِهِ السَّفينَةُ تَسِيرُ قُدُمًا. فِي عُرْضِ الْبَحْرِ مَنْشُورَةَ الشّرَاع . وَقَصَدَ الْعِمْلَاقُ مَنْزِلَهُ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ وَالْغَيْظُ يُقَطِّعُ قَلْبَه ، وَمَا إِن أَقْلَعَتِ السَّغِينَةُ بِالُهَارِبَيْنِ ، حَتَّى الْتَفَتَ أَنْوَر إِلَى كرِيمَة وَقَال لَهَا فَرِحًا مَسْرُورًا : - « لَقَدْ نَجَوْنَا . لَقَدْ نَجَوْنَا »فَقَالَتْ لَهُ كَرِيمَة مُرْتَعِدَة مُضطرِّبَة . - . لَا يَزَالُ الْخَطَرُ يُحَلِقُ فَوْقَ رَأْسَيْنَا . فَلِلْعِمْلَاقِ شَفِيعَةٌ مِنَ السَّاحِرَات ، وَإِنّى لَأَخْشَى أَنْ تَتْأَرَ لَهُ مِنَّا . وَفَنِّى يَقُولُ لِى إِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَنِي لَحْظَةً وَاحِدَة ، عَرَضْتَنِي لِلخَطَر ، وَلَنْ يَزُولَ عَنِّي حَتّى أُزَفَ إِلَيْك » . فَقَالَ لَهَا أَنْوَر مُبْتَسِمًا : - « لاَ تَخَافِي يَا عَزِيزَتِي ، فَإِنَّ حُبَّنَّا أَقْوَى مِنْ كُلِّ خَطَر». كَانَتِ السَّفِينَةُ تَشُقُّ طَرِيقَهَا عَبْرَ الْأَمْوَاجِ ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ رَسَتْ فِي الْمِينَاءِ الَّذِي لَا يَبْعُدُ كَثِيرًا مِنَ الْقَصْرِ الَّذِي نَشَأَ فِيهِ أَنْوَرِ، حَتَّى التَفَتَ إِلَى السَّفِينَةِ يُرِيدُ أُنْ يَشْكُرَ الْمَلَّاحِينَ عَلَى جَهْدِهِمْ وَحُسْنِ رِعَايَنْهِم. وَلَكِنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ قَدْ تَوَارَت بِمَلاَحِيهَا كَأَنَّمَا غَاصَتْ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْر . وَلَا تَسَلُ عَنْ فَرْحَةٍ أَنْوَر حِينَمَا عَرَفَ مَزَارِعَ أَبِيهِ وَالْقَصرَ الْقَائِمَ فِي وَسَطِهَا ، ومَالَ عَلَى كَرِيمَة يُرِيدُ أَنْ يُعَبِّرَ لَهَا عَنْ سُرُورِهِ بِعَوْدَتِهِ إِلَى قَرْيَتِهِ ، فَتَنَبَّهَ لأَوَّلِ مَرَّةٍ إِلَى مَلَابِسِهَا الزَّرِيَّةِ فَقَالَ لَهَا : -« إِنَّ أُسْرَتِي تُعْنَى كَثِيرًا بِالْمَظَاهِرِ ، فَلَسَوْفَ تَشْتَاءُ إِذَا رَأَتْكِ عَلَى مِثْلِ هذَا الزِّيِّ الْحَقِير ، وَلَسَوْفَ تَزْدَادُ اسْتِيَاءَ إِذا ذَهَبَّنَا إِلَى الْقَصْرِ مَشْيًا عَلَى الْأَقْدَام ، فَانْتُظِرِيني قَلِيلاً أَعُدْ إِلَيْكِ بِشِيَابٍ جَمِيلَةِ ، وَبِفِرَسٍ تَرْكَبِيِنَهَا إِلَى الْقَصْرِ». فَإِنَّكَ سَوْفَ تَنْسَابِي إِذَا لَقِيتَ أَهْلَكَ وَأَصْدِقَاءَك . فَقَاطَعَهَا أَنْور وَبَدَّدَ مَخَاوِفَهَا ، فَاسْتَوْقَفَتْهُ سَيِدَةُ شَقْرَاءٍ لَا يَعْرِفُهَا ، وَاقْتَرَبَتْ مِنْهُ وَفِي يَدِهَا تُفَّاحَة ، وَقَالَتْ لَهُ وَهِىَ تَبْتَسِمُ ابتِسَامَةً غَرِيبَة : - « أَيُّهَا الفَارِسُ الْجَمِيل ! لَقَدْ عُدْتَ مِنْ سَفَرٍ طَوِيل ، وَلَا أَظُنُّكَ إِلَّا جَوْعَانَ عَطْقَان، فَاقْبَلْ مِنِّى هذِهِ التُفَّاحَة ، وَكُلْهَا هَنِيئًا ، وَلَسْتُ أَعْتَقِد ، وَأَنْتَ الْفًى الْمُوَدَّبُ الْمُهَذَّب ، أَنَّكَ نَسِيتَ آدَابَ الْكِيَاسَةِ وَالْمُجَامَلَة، فَقَبِلَ أَنْوَرُ الرَّجَاء، وَمَا كَادَ يَعَضُّ عَلَى التُّفَّاحَة، حَتَّى تَوَلاَهُ ذُهُولٌ شَدِيد، فَتَأَبَطَتْهَا وَرَجَعَا مَعًا إِلَى الْقَصْرِ يُشَارِ كَانِ فِي مَبَاهِجِ الْحَفْل . وَ بَقِيَتْ تَتَوَدَّدُ إِلَيْهِ حَتَّى وَعَدَهَا بِالزَّوَاجِ ، وَنَسِيَ كَرِيمَةَ كُلَّ النِّسْيَان طَالَ الْوَقْتُ عَلَى كَرِيمَة وَلَمْ يَرْجِعِ الْحَبِيبُ الْمُنْتُظَر ، فَقَامَتْ والشَّمْسُ تَكَادُ تَغِيبُ وَرَاء الأُفُق، وَسَارَتْ فِي اِتِجَاهِ الْقَصْرِ بَاركِيَةً حَزِينَة، وَمَرَّت فِي طَرِيقِهَا بكُوخِ مُتَهَدِمٍ وَقَفَتْ عَلَى بَابِهِ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ تَهُمُّ بِحَلْبٍ بَقَرَتِهَا ، فَعَيَّتْهَا كَرِيمَة فِي وَدَاعَة وَأَدَب ، وَطَلَبَتْ مِنْهَا أَنْ تَسْمَعَ لَهَا بِقَضَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي زَاوِيَةٍ مِنَ الْإِسْطَبْلِ ، فَحَدَّقَتْ إِلَيْهَا الْعَجُوزُ طَوِيلًا وَلَمْ تُعْجِبْهَا ثِيَابُهَا الْغَرِيبَة ، فَقَالَتْ لَهَا تُعَجِّزُهَا مُتَهَكّمَة : فَأَخْرَجَتْ كَرِيمَة مِنْ جَيْبِهَا كُرَةً مِنْ ذَهَبٍ وَأَلْقَتْهَا فِي الإنَاءِ وَهِيَ تَقُول : يَاكُرَةً مِنَ الذّهَب مَا خَابَ عِندَكِ الطَّلَبْ وَعَلَى الْفَوْرِ امْتَلَأَّ الإنَاءُ بِقِطَعِ الذَّهَب ، فَاسْتَوْلَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى الْعَجُوز ، وَقَفَزَّتْ إِلَى الإِنَاءِ فَحَمَلَتْهُ وَخَرَجَتْ مِنَ الْكُوخِ وَهِىَ تَصِيحُ فِي كَرِيمَة : - « الْكُوخُ وَالْبَقَرَةُ وَالإسْطَبْلُ كُلُّ هَذَا لَكِ أَيَّتُهَا السَّيِدَةُ الْعَظِيمَة . إِنِّى ذَاهِبَةٌ إِلَى الْمَدِينَةِ أَعِيشُ فِيهَا عَيْشَ الْأَمِيرَات. آمِ لَوْ لَمْ أَكُنْ تَجَاوَزْتُ السِّتِّينَ مِنْ عُمْرِي ! » . وَمَضَتْ تُوسِعُ الْخُطَا إِلَى نَاحِيَةِ الْقَصْرِ. وَعَزَّ عَلَى كَرِيمَة أَنْ تَسْكُنَ هذَا الْكُوخَ الْحَقِيرَ بَعْدَ قَلْعَةِ الْعِمْلَاق . فَأَخْرَجَتْ مِنْ جَيْبِهَا كُرَةً أُخْرَى مِنَ الذَّهَب ، وَرَمَتْهَا فِي الْمَوْقِدِ الَّذِي كَانَتْ تَشْتَعِلُ فِيهِ بَعْضُ أعْوَادٍ مِنَ الْقَصَب ، وَقَالَتْ تُخَاطِبُ كُرَتَها : يَا كُرَةً مِنَ الذَّهَبْ وَكُلَّ شَيْء فِي الْكُوخِ حَتَّى قَرْنَى الْبَقَرَة . وَحَكتِ الْعَجُوزُ حِكَايَتَهَا لِلنَّاسِ وَالْحِجَارَة ، فلَمْ يَبْقَ أحَدٌ فِي قَرْيَةٍ أَنْوَر إِلا عَلِمَ بِهَا . وَعِنْدَ الْفَجْرِ نَهَضَ نَاظِرُ الزِّرَاعَة ، وَزَاغَ بَصَرُهُ عِنْدَمَا دَخَلَ الْبَيْتَ وَرَأَى فَتَاةً عَلَى جَائِبٍ عَظِيمِ مِنَ الْجَمَال ، جَالِسَةً قُرْبَ النَّافِذَة ، وَكَانَ هَذَا النَّاظِرُ شَابًّا مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ، فَطَلَبَ مِنْهَا أَنْ تَرْضَى بِهِ زَوْجًا، فَضَحِكَتْ مِنْهُ وَاسْتَهْزَأَت ، فَهَدَّدَهَا بِالسِّجْنِ بِتُهْمَةِ. السحْرِ وَالشَّعْوَذَة ، فَلَمْ تَكْتَرِثْ لَه ، فَأَمْسَكَ بِالْمِلْقَطِ وَأَسْرَعَ يُعِيِدُهَا إِلَى مَوْضِعِهَا فَقَالَتْ لَهُ كَرِيمَة : وَالْتَقِطُ بِهِ الْجَمْر ، وَأَعِدْهُ إلَى الْمَوْقِدِ » . ثُمَّ لَفَظَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ السِّحْرِيَّة : - « أَبْرَا كَادَبْرَا » . وَأَضَافَتْ تَقُول : - • اِبْقَ أَيُّهَا الشِرِيرُ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ مُمْيِكًا بِالْمِلْقَط تَلْتَقِطُ بِهِ الْجَمْرَ وَتُرْجِعُهُ إلَى مَكَانِهِ . فَقَضى الرَّجُلُ طُولَ نَهَارِهِ يَقُومُ بِهَذَا الْعَمَل ، وَقِطَعُ الْجَمْرِ تَشِبُ فِي وَجْهِهِ ، وَحَالَمَا غَابَتِ الشَّمْسُ سَقَطَ الْمِلْقَطُ مِنْ يَدَىٰ نَاظِرِ الزِّرَاعَةِ قَقَرَ هَارِبًا كَأَنَّ الثَّيْمَانَ أَوِ الْمَدَالَةَ تَجِدُ فِي أَثَره . وَكَانَ قَدْ سَمَعَ بِقِصَّةِ الذَّهَب ، فَجَاءَ يُجَرِبُ هُوَ أَيْضًا حَظَّهُ فِي الزَّوَاجِ مِنْ هذِهِ الْفَتَاةِ الْغَرِيبَة . وَوَصَفَتْهُ بِقِلَّةِ الذَّوْقِ إذْتَرَكَ بَابَ الْغُرْفَةِ مَفْتُوحًا ، فَقَالَتْ كَرِيمَة كَلِمَتَهَا السِّحْرِيَّة : - : أَبْرَا كَادَبِرًا . ، وَأَضَافَتْ تَقُول : بِالْبَاب ، تُغْلِقُهُ وَتَفْتَحُهُ عَلَى مَرِّ الدَّقَائق ، . فَتَحَتْ عَيْنَيْهَا عَلَى رَجُلٍ جَالِي إِلى جِوَارٍ سَرِيرِهَا ، قَاسى الْمَظْهَر، عَبُوسِ الْوَجْه ، سَمِعَ هُوَ كَذلِكَ بِأَخْبَارِ الذَّهَب ، فَجَاءَ يَطْلُبُ يَدَ رَبَّةِ الذَّهَب ، فَهَرَبَتْ مِنْهُ كَرِيمَة إِلَى الإِسْطَبْل، فَلَحِقَ بِهَا إِلَيْه ، وَاعْتَرَضَتِ الْبَقَرَةُ طَرِيقَه ، وَاغْتَنَمَتْ كَرِيمَة هَذِهِ الْفُرْصَةَ وَقَالَتْ كَلِمَتَهَا السِّحْرِيَّة : - . أَبْرَا كَادَبْرَا ، وَأَضَافَتْ تَقُول : - " لِيُمْسِكَ بِكَ ذَيْلُ الْبَقَرَةِ حَتَّى تَدُورًا مَعَا حَوْلَ الْعَالَم » . فَانْطَلَقَتِ الْبَقَرَةُ بِسُرْعَةِ الْبَرْقِ تَجُرُّ مَعَهَا الْعُمْدَة مُصَعِّدَةً فِى الْجِبَال ، هَابِطَةً إلَى الْأَوْدِيَة ، مُجْتَازَةً الأَنْمَار ، مُرَفْرِفَةَ فَوْقَ الْبِحَار ، وَبَعْدَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَاعَةً مِنْ هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْعَجِيبَة ، تَوَقَّفَتِ الْبَقَرَةُ بِمَنْ تَجُرُّ مَعَهَا فِي سَاحَةٍ الْقَرْيَة ، وَهَرْوَلَ الْعُمْدَةُ إلَى يَتِهِ مُتَصَبِّبَ الْعَرَق ، مُحَطَ الأَضْلاَع . . كَانَ أَهْلُ أَنْوَر بَلِ الْقَرْيَةُ كُلُّهَا تُوَاصِلُ اسْتِعْدَادَهَا مُنْذُ يَوْمَيْنِ لِلاحْتِفَالِ بِزِفَافِ السَّيِّدَةِ الشَّقْرَاءِ إلَى أَنْوَر . وَيَوْمَ اكْتَمَلَ عِقْدُ الْمَدْعُوِين، رَكِبَ الْعَرُوسَانِ مَرْكَبَةً فَاخِرَةً مُزَيَّةً بِالْوَرْد وَالرَّيْحَان، فَتَحَطَّمَتِ السَّارِيَةُ الْمَرْبُوطَةُ إِلَيْهَا الْجِيَاد ، وَانْقَسَمَتِ الْمَرْكَبَةُ شَطَرَيْن ، وَجِءَ بِالنَّجَّارِينَ وَالْحَدَّادِينَ لِإصْلَاحِ الْمَرْ كَبَة، وَتَنَافَسَ الرِّجَالُ الْأَشِدَّاء يُعَاوِلُونَ رَفْعَ الْمَرْكَبَةِ مِنَ الْحُفْرَة ، فَذَهَبَ جَهْدُ هَوُلَاءِ وَأُولئِكَ ضَيَاعًا . فَاقْتَرَبَ عِنْدَئِذٍ نَاظِرُ الْزِّرْاعَةِ وَرَثِيسُ الْحَرَسِ وَالْعُمْدَةُ مِنْ وَالدِ أَنْوَر ، وَقَالَ الْأَوَّل : - • إِنَّ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَرَاهُ يَلْمَعُ وَيَسْطَعُ عَنْ بُعْد ، فَتَاةً غَرِيبَةً عَنِ الدِّيَار ، فَرَأْبِي أَنْ تَسْتَعِيرَ مِنْهَا مِلْقطَهَا ، وَنَضَعَهُ فِي مَكَانِ السَّارِيَة . »، وَقالَ الثَّانِي : - وَرَأْلِي أَنْ نَسْتَعِيرَ مِنْهَا بَابَ غُرْفَتِهَا ، وَنَجْمَعَ بِهِ شَطَرَى الْمَرْكَبَة . وَقال الثَّالِث : - - « وَرَأْيِى أَنْ نَسْتَعِيرَ مِنْهَا بَقَرَتَهَا الْقَوِيَّة وَتَرْفَعَ بِهَا الْمَرَكَبَة» . - فَوَافَقَ وَالِدُ أَنْوَر عَلَى هَذِهِ الآرَاءِ الثَّلَاثَة ، وَجَرَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْغِلْمَانِ إِلَى مَنْزِلِ كَرِيمَة، وبِبَابِ الغُرْفَةِ فَوَصَلَ بَيْنَ شَطْرَى الْمَرْكَبَة . وَرَبَطَ السَّائِقُ الْبَقَرَةَ إِلَى الْمَرْكَبَةِ فَاتْتَشَلَتْهَا مِنَ الحُفْرَةِ وَطَارَتْ بِهَا فِي سُرْعَةٍ جُنُونِيَةٍ لَا إِلَى مَكْتَبٍ مُوَثِّقِ العُقُود. بَلْ رَجَعَتْ بِهَا إِلَى الْقَصْر . - وَكَانَتِ الْمَوَائِدُ قَدْ أُعِدَّتْ . وَالطَّبَّاخُونَ قَدْ أَتَمُّوا صُنْعَ شَهِيِّ الطَّعَام ، فَقَالَ وَالِدُ أَنْوَرِ : - - " غَدًا تَذْهَبُ إِلَى تَوْثِيقِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، أَمَّا اليُوْم فَلْنَحْتَفِلْ بِزَوَاجِ أَنْوَرِ وَعَرُوسِه » . - ثُمَّ دَعَا الْمَدْعُوِّينَ إِلَى الْجُلُوس ، - وَكَانَتْ الْمَعُونَةُ الَّي بَذَلَتْهَا لَهُمُ الْفَتَاةُ الْغَرِيبَةُ قَدْ أَثَّرَتْ فِي نَفْسِهِ ، فَأَوْفَدَ إلَيْهَا جَمَاعَةً مِنَ الفُرْسَانِ يَدْعُونَها بِاسْمِهِ إِلَى شُهُودِ الْمِهْرَجَانِ الَّذِي يُقَامُ احْتِفَاءُ بِزَوَاجِ ابْنِهِ ، وَنَفْسُهَا حَزِينَةٌ حَتَّى الْمَوْت . - وَصَلتْ كرِيمَةٍ إِلَى الْقَصْر . فَخَفَّ وَالِدُ أَنْوَر يُرَحِبُ بِها أَجْمَلَ تَرْحِيب ، وَأَجْلَسَهَا عَنْ يَسَارِهِ فِي الْمَقْعَدِ الْخَالِي، فَحَزَّ الأَلَمُ فِي صَدْرِهَا وَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا : وَدَاعًا أَيَّتُها الأَحْلَامُ الْجَمِيلَةِ ! - وَدَوَّى صَوْتُ وَالِدِ أَنْوَر يَقُول : - - « لِنَشْرَبْ جَمِيعًا فِي صِحَّةِ ضَيْفَتِنَا النَّبِيلَة ! » وَشَاءت كَرِيمَة أَنْ تَعْتَمِدَ عَلَى أَمَلِهَا الأَخِير ، فَأَخْرَجَتْ كُرَةَ الذَّهَبِ مِنْ جَيْبِهَا ، وَهَمَسَتْ بِهَا قَائِلَةٌ وَهِيَ تَقْرُكُها : - يَا كُرَةً مِنَ الذَّهَبْ - مَا خَابَ عِنْدَكِ الطَّلَبُ وَأَصْبَحَتْ كَأْسًا كَبِيرَةً مِنَ البِلَّوْرِ ، وَرَجَتْ مِنْ أَحَدِ الْخَدَمِ أَنْ يُقَدّمَها إِلَى أَنْوَر ، فَتَنَاوَلَها وَرَفَعَها إِلَى عَيْنَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعِيَّةِ، فَاضْطَرَبَ اضطِرَابًا شَدِيدًا وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى الْكَأْسِ ، وَأَرَتْهُ مَرَاحِلَ حَيَاتِهِ الْمَاضِيَةِ. إِلَى اللَّحْظَةِ الَّتي تَرَكَهَا فِيهَا عِنْدَ الشَّاطِىِ ، وَكأَنَّمَا صَعَا مِنْ كَابُوسِ تَقِيل ، فَصَاحَ صَيْحَةً أَدْهَشَتِ الحَاضِرِينَ وَهُوَ يَقُول : - - « كَرِيمَة ! أَيْنَ أَنْتِ ؟ هَل تَصْفَحِينَ عَنّي ؟" ثُمَّ ارْتَمَى عِنْدَ قَدَمَيْها بَاركيًا مُنْتَحِبًا . أَمَا السَّيِّدَةُ الشَّقُرَاء ،