وقد بعث في غبون ذلك الحسن بن قحطبة لأبي أيوب كاتب رسائل المنصور يشافهه ويخبره بأن أبا مسلم يتهم في أبي جعفر المنصور; ليحتاط على ما أصيب من معسكر عبد الله من الأموال والجواهر الثمينة وغيرها ، فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزاب عازم على الدخول إلى خراسان : إنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه ، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء ، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة ، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي . وأنت في طاعتك [ ص: 308 ] ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به؟! وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة ، وقد حمل أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها ، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من ظنه من الباب الذي فتحه عليك . فإني اتخذت رجلا إماما ودليلا على ما افترض الله على خلقه ، فحرفه عن مواضعه طمعا في قليل قد نعاه الله إلى خلقه ، ففعلت توطيدا لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يجهلكم ، فإن يعف عني فقدما عرف به ونسب إليه ، وإن يعاقبني فبما قدمت يداي ، وبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي - وكان واحد أهل زمانه - في جماعة من الأمراء ، وإن أبى أن يرجع فقل : إنه يقول : هو بريء من العباس ، إن شققت العصا وذهبت على وجهك هذا ليدركنك بنفسه وليلين قتالك دون غيره ، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك . فلما قدم عليه أمراء المنصور بحلوان دخلوا عليه ولاموه فيما هو فيه من منابذة أمير المؤمنين ، فكتب إليه المنصور في غيبة أبي مسلم حين اتهمه : إن ولاية خراسان لك ما بقيت . فكتب أبو داود إلى أبي مسلم حين بلغه ما عزم عليه من منابذة الخليفة : إنه ليس لنا منابذة خلفاء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رجع إليه أبو إسحاق قال له : ما وراءك؟ قال : رأيتهم معظمين لك يعرفون قدرك . ما للرجال مع القضاء محالة ذهب القضاء بحيلة الأقوام قال : وما هي؟ قال : إذا دخلت عليه فاقتله ، قال أبو أيوب كاتب الرسائل : فدخلت على المنصور وهو في خباء شعر بالرومية جالسا على مصلاه بعد العصر ، وقلت : إن دخل أبو مسلم خائفا ربما يبدو أنه يبدر منه شيء إلى الخليفة ، فإنها مغلة في هذه [ ص: 311 ] السنة؟ فقال : ومن لي بذلك؟ فقلت له : فاذهب إلى أبي مسلم ، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه ما وراء بابه ويستريح لنفسه . فسار ذلك الرجل - وهو سلمة بن سعيد بن جابر - إلى أبي مسلم ، قال : فكيف بك إذا أمرتك بقتل أبي مسلم؟ قال : فوجم ساعة ، فلما وقف بين يديه جعل المنصور يعاتبه في الذي صنع [ ص: 312 ] واحدة واحدة ، فيعتذر عن ذلك كله فيما كان اعتمده من الأمور التي تسرع فيها . وكان مقتله في يوم الأربعاء لأربع بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة . وكان من جملة ما عاتبه به المنصور أنه قال : كتبت إلي مرات تبدأ بنفسك ، وأرسلت تخطب عمتي أمينة ، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس . لا يقال هذا لي وقد سعيت في أمركم بما علمه كل أحد . فقال : ويلك! لو قامت في ذلك أمة سوداء لأتمه الله; فقال : وأي عدو لي أعدى منك ؟! ثم أمر بقتله فقتل ، [ ص: 313 ] فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر وذكر القاضي ابن خلكان أن المنصور لما عزم على قتل أبي مسلم تحير في أمره; هل يستشير أحدا في ذلك أو يستبد هو برأيه; ثم إنه استشار واحدا من نصحائه في قتل أبي مسلم فقال : يا أمير المؤمنين ، قال الله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] . فقال له : لقد أودعتها أذنا واعية .