وقالوا له: اخرج من بلادنا وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه السفهاء والصبيان والعبيد يسبونه ويصيحون عليه، وجعلوا - أيضا - يرمونه بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدماء، ولم يزل به السفهاء حتى الجاوه إلى حائط بستان العتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف، فعمد النبي ﷺ إلى ظل شجرة من عنب، فجلس فيه هو وزيد ابن حارثة، الباب الأول اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أو يحل على سخطك لك العتبى حتى ترضى، فأرسل الله - عز وجل - جبريل ومعه ملك الجبال يقول: يا رسول الله إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين»، فكان الرد النبوي الذي تتجلى فيه شخصية النبي الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم والرحمة والشفقة، وعاد النبي ﷺ إلى مكة بعد أن دخل في حوار المطعم بن عدي، عاد يستكمل رحلته إلى الله، وإلى دينه، وهو أشد عزما على المضي في طريقه غير مبال بما يلاقي في سبيل الله عز وجل - ولا يثنيه ذلك عن بلوغ هدفه. 984/24 يقول الأستاذ الندوي لم يكن الإسراء مجرد حادث فردي بسيط رأى فيه رسول الله ﷺ الآيات الكبرى، وتجلى له ملكوت السماوات والأرض، مشاهدة وعيانا بل زيادة إلى ذلك اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معان دقيقة كثيرة وشارات حكيمة بعيدة المدى فقد ضمت قصة الإسراء وأعلنت السورتان الكريمتان اللتان نزلتا في شأنه «الإسراء» و «النجم» أن محمدا هو نبي القبلتين وإمام المشرقين والمغربين، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، فكان هذا إيذانا بعموم رسالته، وخلود إمامته، الهجرة إلى المدينة بعد بيعة العقبة الثانية أمر النبي ﷺ أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فتابعوا في الهجرة، فكان أول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم عامر بن ربيعة مع امرأته ليلى، ثم عبد الله بن جحش، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبه المشركون أو فتنوه باستثناء على بن أبي طالب وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما. ورأوا كذلك خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، وأن خروج النبي هو الآخر يعني جمع الناس حوله محاربتهم، فاجتمعوا في دار الندوة، وقرروا قتله وذلك بأن تختار كل قبيلة فتى شابا قويا من أبنائها، حتى إذا خرج في الصباح ضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل ولا يقوى بنو هاشم على محاربة أهل مكة جميعا ويرضوا بالديه. وأن يتسجى ببرده، 984/28 موجز السيرة النبوية - لكن الله أعمى أبصارهم، ولم يترك واحدا منهم إلا وضع على رأسه حفنة من التراب، التخطيط النبوي المحكم للهجرة ورسم أدوار من يحتاج إليهم بدقة شديدة، فجاء التخطيط على أحكم ما يكون، ويتضح فيما يلي: 1- ذهب إلى أبي بكر ظهرا، في وقت شدة الحر، وفي وقت لم يتعود الذهاب فيه إلى دار أبي بكر. خرج من دار أبي بكر ليلاً؛ حتى لا يراه أحد، طلب من على بن أبي طالب أن يتخلف قليلاً؛ حتى يؤدي عن رسول الله والودائع التي كانت عنده للناس، ثم أمره أن يلحق به في المدينة. بعد ثلاثة أيام في غار ثور. ٦- طلب من عبد الله بن أبي بكر أن يأتيهما في الغار ليلا بأخبار قريش ثم يعود إلى مكة قبل الفجر، أسماء بنت أبي بكر تأتي إليهما بالطعام في الغار. يقوم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر برعي الغنم ناحية الغار، ويريحالغنم هناك، فيمسح آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر وأسماء، مكث النبي وصاحبه في الغار ثلاثة أيام حتى هدأت قريش، ولم يتجها شمالاً إلى المدينة؛ ولتبدأ صفحة جديدة في تاريخ الأمة؛ حيث الدولة المسلمة بكل ما تحمله من مقومات. فالأرض هي يثرب، والشعب هم المهاجرون والأنصار، والدستور: هو القرآن، أعمال النبي ﷺ في المدينة وبناء الدولة المسلمة : 1- بناء المسجد شرع النبي فور وصوله في بناء المسجد الذي شارك في بنائه بنفسه مع أصحابه؛ ليصبح المسجد ذا شأن عظيم في تاريخ الإسلام، فبالإضافة لأداء الصلوات فيه أصبح المدرسة التي تخرج فيها الرعيل الأول من المسلمين، وهو المكان الذي يختار فيه الخلفاء ويبايعهم المسلمون و تناقش فيه كل أمور المسلمين وقضاياهم، النبي ﷺ وفود القبائل وسفراء الملوك والأمراء. فتح الأنصار قلوبهم وبيوتهم لإخوانهم المهاجرين، بصدر رحب ونفس معاهدة بين المسلمين واليهود بعد أن استقرت الأمور في المدينة، ودخل معظم أهلها الإسلام، الغزوات والسرايا : الإذن بالقتال قال ابن كثير : وإنما شرع الله - تعالى - الجهاد في الوقت الأليق به؛ فلو أمر المسلمون - وهم أقل - بقتال الباقين لشق عليهم؛ معركة فاصلة في تاريخ الإسلام؛ سببها : أراد النبي ﷺ استعادة بعض ما أخذت قريش من المسلمين المهاجرين من أموال ومتاع، لظنهم أنها لن تكون حرباً؛ حيث إن القافلة لم يكن فيها سوى أربعين رجلا، لحماية القافلة، فدخل مكة وقد حول رحله، وجدع أنف بعيره، وشق قميصه من قبل، وأخذ ينادي بأعلى صوته: يا معشر قريش اللطيمة . اللطيمة أي القافلة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث. وكان عددهم ٩٥٠ معهم ١٠٠ فرس و ۷۰۰ بعير. أبو سفيان ينجو بالقافلة ولكن أبا جهل رفض إلا أن يقاتل المسلمين وقال: والله لا ترجع حتى نرد بدرا فنقيم بها ثلاثا، نذبح الجزور، فلا يزالون يهابوننا أبدا. اجتمع رسول الله ﷺ بكبار أصحابه يستشيرهم في الأمر، أما وقد خرج فقد لزم مشورتهم فقال: أشيروا على أيها الناس». فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل الموسى: اذهب أنت فدعا له رسول الله وأثنى عليه خيرا، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته الخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم". غزوة أحد فتحرك عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وأبو سفيان بين القبائل، وطلبوا ممن لهم أموال في قافلة أبي سفيان، التي تجت وكانت سببا في الغزوة، فوافق الجميع. وعلى الميمنة خالد بن الوليد، وهو أيضا قائد الفرسان، وعلى المشاة صفوان بن أمية، وحامل اللواء طلحة العبدري، وصلت إلى رسول الله ﷺ رسالة من عمه العباس فيها خبر الجيش وتفاصيله وخروجه الملاقاة المسلمين، فاجتمع النبي بأصحابه يستشيرهم في الخروج من المدينة أو البقاء فيها والدفاع عنها من خلالها، فاستجاب لهم النبي ونزل على رغبتهم ومشورتهم. خرج النبي من المدينة في ألف من أصحابه، الباب الأول فائدة : فقالوا : هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود، لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك». حيث جعل الجبل يحمي ظهره، وقال لهم: قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا، قسم النبي الجيشين إلى ثلاث كتائب - كتيبة المهاجرين، وحامل لوائها أسيد بن حضير. كتيبة الخزرج، وحامل لوائها الحباب بن المنذر. وأوكل النبي إلى الزبير بن العوام - وهو الفارس الوحيد في صفوف المسلمين والمقداد بن عمرو مهمة الصمود أمام خيل قريش التي يقودها اشتعال المعركة بدأت المعركة بهجوم ميمنه جيش مكة بقيادة أبي عامر الفاسق، تساندهم الخيل بقيادة خالد بن الوليد على ميسرة جيش المسلمين، إلا أن الرماة المسلمين اضطروهم إلى التقهقر والتراجع بعد أن نضحوا الخيل بالنبل من أحد مساء السبت، وبات المسلمون يداوون جرحاهم، فلما صلى رسول الله ﷺ الصبح يوم الأحد أمر بلالاً أن ينادي: إن رسول الله ﷺ يأمركم بطلب العدو، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس، وخرج القوم وهم بين مجروحوموهون ومشجوج، فأوقد المسلمون هناك نيرانا عظيمة حتى ترى من المكان البعيد وتوهم كثرة أصحابها. مر معبد الخزاعي - وكان يومئذ من مشركي خزاعة - على المسلمين، ثم تجاوزهم، فمر على المشركين ولهم زجل ومرح وزهو بالنصر الذي لاقوه في أحد، وهم يأتمرون بالرجوع إلى المدينة للقضاء على المسلمين، وصفوان بن أمية ينهاهم، يتحرفون عليكم تحرفًا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط !! وهبوا مسرعين عائدين إلى مكة. وفي أحداث هذه الغزوة نزلت سورة آل عمران. عزوة بني النضير وقعت أحداث هذه الغزوة في شهر ربيع الأول من العام الهجري الرابع. الخطأ، فأظهر اليهود الموافقة والترحاب الشديد برسول الله ﷺ فجلس بجانب جدار لهم، فاتفق اليهود على اغتياله في تلك اللحظات بإلقاء صخرة عليه وهو جالس، ولما تأخر عن أصحابه جاءهم الخبر برجوعه إلى المدينة، فلحقوا به، وقد أجلتكم عشرا، أخذ يهود بني النضير يتهيئون للخروج، لكن ابن سلول أرسل إليهم يعدهم بنصرتهم، حينئذ سار المسلمون إليهم فتحصن اليهود بحصونهم، واستمر الحصار خمسة عشر يوما. أمر النبي ﷺ بقطع النخيل وحرقه، فنادوا من وراء الحصون: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من يصنع، فوافق النبي ﷺ فاحتملوا من الأموال ما استقلت به الإبل، فينطلق به إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، منهم: سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع وحيي بن أخطب. وقعت هذه الغزوة في شهر شوال سنة خمس من الهجرة - على أرجح الأقوال. وكنانة بن أبي الحقيق واتجهوا صوب مكة يدعون قريشا إلى حرب المسلمين، فاقترح سلمان الفارسي أن يحفر خندق حول المدينة فلا يستطيع المشركون الوصول إلى المسلمين، فقبل الاقتراح، وعمل فيه جميع المسلمين وعلى رأسهم وأولهم رسول الله ، حتى انتهوا منه. ومرة يقودها الحارث بن عوف، خرجت أيضا كنانة وتهامة ونجد حتى اجتمع عشرة آلاف مقاتل، اتجهوا صوب المدينة؛ بغية استئصال المسلمين وإبادتهم، فأذهلتهم المفاجأة، تأكل قلوبهم الحسرة، ٤٥ 984/46 أما النساء والصبيان والعجائز فقد أمر النبي ﷺ بوضعهم في حصن بني حارثة حتى يكونوا في مأمن من خطر الأعداء. واشتد الخوف مع شدة البرد والجوع أيضا، حتى صور القرآن ذلك بقوله تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقَكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَت الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا وَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زلزالاً شديدًا) [الأحزاب: ۱۰، ۱۱] مما جعل النبي ﷺ يفكر في أمر يخفف به ما نزل على المسلمين، وسعد بن معاذ، لكن السعدين - رضي الله عنهما - رفضا الفكرة بشدة، هدية السماء للمسلمين الصابرين في هذا التوقيت العصيب الذي تجمع فيه على المسلمين البرد والجوع والخوف والعدو والحصار، هدى الله للإسلام رجلاً من أشجع - إحدى قبائل غطفان - فذهب للنبي ﷺ يخبره بإسلامه، فخذل عنا ما استطعت؛ فذهب إلى اليهود فأشار عليهم أن يأخذوا رهنا من أشراف غطفان و قريش؛ ليضمنوا مساندتهم لهم إن أرادوا حرب رسول الله ﷺ ؛ لأنه قريببني قريظة على ذلك. وذهب إلى غطفان وقريش وقال لهما: إن اليهود ندموا على نقضهم الحلف مع محمد وهم يريدون أخذ رجالكم يعطونهم لمحمد ليضرب أعناقهم حتى يضمنوا استمرار التحالف معه،