لكي نفهم الظروف التي مر بها التعليم لا بد أن نعرف المراحل التي مرت بها أوربا على المستوى السياسي والديني لأن تلك العوامل كان لها بالغ الأثر في التحول التعليمي وظهور الجامعات، وأبرز ما يمكن التركيز عليه هو التعليم بين التوجه الديني المتمثل في الكنيسة، والتوجه العلماني خصوصاً وأن أوربا في تلك الفترة تخللها غزو وهجمات قبائل الجرمان الهمجية إلى أنها ايضاً مرت بصحوة فكرية وعلمية تراوحت ما بين القرون الحادي عشر والثالث عشر. أما الموطن الأول للعناصر الجرمانية فكان البلاد المحيطة بالبحر البلطي، ومن هناك أخذوا يتحركون جنوباً ليحلوا محل الكلت حتى استقروا في المناطق الواقعة بين نهري الألب والراين، اتساع نطاق الفلسفة والأفكار الحرّة –خلال هذه المرحلة ظهرت البدايات الأولى للنهضة العلمية في أوربا فـ 12 –بداية ظهور الجامعات وانتشار التعليم والثقافة اليونانية (الفلسفة) –نمو المدن (التطور العمراني) والعمل التنوير الذي انطلق واضعًا أسس نهضة علمية وفكرية مقاومة الكنيسة لتلك الأوضاع الفكرية التحررية الجديدة بكل الوسائل وأصبحت تسخر سياستها كالحرمان واتهام الناس بالهرطقة فهي مرحلة التغيير في أوربا. ) في حين أن المعنى الحقيقي للفظ هو الذي يفسر لنا طبيعة الأصل التاريخي لنظام الجامعات، فضلا عن بلديات المدن، غير أن لفظ جامعة تحور عند نهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر حتى أصبح يطلق على اتحادات المشتغلين بالعلم والتعليم من الطلاب والأساتذة، وبذلك بدأنا نسمع في البيئات الجامعية عن الجامعة الطلبة بمعنى اتحاد الطلبة، وإنما قصد بها الاتحاد الذي يكونه كل فريق من هذين الفريقين لرعاية مصالحه وتنظيم أموره. أما المكان أو البيئة العلمية التي تعبر عنها اليوم باسم جامعة فقد أطلق عليها في أوروبا في العصور الوسطى اسم المدرسة العامة Studium General بمعنى المكان الذي يستقبل طلاب العلم الوافدين من جميع الجهات، وعندما أصبح لفظ المدرسة العامة - الذي يعبر عن الجامعة في معناها الحديث( ) - شائعا في مستهل القرن الثالث عشر، عدت له ثلاث خصائص مميزة أولاها أن هذا المكان أو المدرسة صارت تستقبل طلاب العلم الوافدين من جميع الجهات والبلاد لا من جهة معينة أو بلد محدد وثانيتها أنها كانت مركزا للدراسات العليا، ومن الواضح أن الصفة الأولى كانت أهمها جميعا، وتخصص كل منها في جانب أو أكثر من جوانب المعرفة، ) بل حتى إن مسميات الدرجات العلمية وكثيرا من التقاليد والثقافات الجامعية لا زالت مستمرة، بل حتى أزياء التخرج في الجامعات الغربية هي مشابهة لتلك المستخدمة في الجامعات القديمة وقد تكونت كثير من الجامعات الأوروبية القديمة من المدارس الكاتدرائية والرهبانية، وكانت الجامعات القديمة في معظمها لديها صبغة دينية، وقد نشأت الجامعات الأوروبية في ظل غياب جهات مركزية مشرفة على التعليم وهذا من أسباب وجود اتصالات مباشرة بين الجامعات القديمة والسلطات الدينية والمدنية، حيث يسهل الرقابة عليها، خاصة في ظل غياب الكثير من الحريات الأكاديمية في تلك المرحلة في أوروبا. فقد كانت مدرسة عريقة للطب، ويصعب تحديد متى تحولت المدرسة إلى جامعة والسبب الآخر لصعوبة تحديد تاريخ محدد لتأسيس الجامعات أن بعض الجامعات تأسست بجهود فردية من قبل مجموعة من الطلاب والأساتذة دون الحصول على تصاريح رسمية في بداية الأمور، وبعد التأسيس بسنوات طويلة يتم الاعتراف من البابوية أو السلطات المدنية باستثناء بعض الجامعات، ومن أسباب صعوبة تحديد تاريخ محدد لنشأة بعض الجامعات القديمة أنه من الصعوبة إيجاد آلية واضحة لتحديد تاريخ التأسيس الجامعة؛ وهنا تكمن صعوبة تحديد تاريخ واقعي لكثير من الجامعات في العصور الوسطى. ويعتقد المؤرخون أن جامعة بولونيا في إيطاليا هي الأقدم، أي أن تأسيسها كان عام 1088 للميلاد على يد من الطلاب الدوليين، وهي جامعة لا تزال تعمل إلى اليوم، ويعتقد البعض أن التأسيس كان بعد سنوات من هذا التاريخ، ثم تأسست جامعة باريس عام 1150 م. ومن ثم تأسست وانتشرت جامعات كثيرة في فترة قصيرة في أنحاء القارة الأوروبية( ) مثل جامعات كامبريدج، بادوفا، تولوز وغيرها من الجامعات الأوربية في العصور الوسطى. ورغم انتشار الجامعات إلا أنه كان هناك نموذجان أو نمطان في إدارة الجامعات ثم( ) الاقتداء بهما في جميع الجامعات الأوروبية في القرون الوسطى النمط الأول: هو النمط أو النموذج المطبق في جامعة بولونيا، حيث إن اتحاد الطلاب هو من يدير الجامعة، وقد تم الاقتداء بهذا النموذج في كثير من الجامعات القديمة خصوصا في إيطاليا، حيث قام اتحاد الأساتذة بتأسيس وإدارة الجامعة، وهذا النموذج هو السائد في الكثير من الجامعات الأوربية في القرون الوسطى. وهي جامعة بولونيا، وقد ساهم نجاح جامعة بولونيا وصداها الكبير في انتشار الجامعات إلى اليوم التي لا تكاد تخلو مدينة كبيرة في العالم من جامعة. ) بل إن بعضًا مِمَّن أسسوا جامعة بولونيا كانوا من خارج إيطاليا، وكان من أوائل - إن لم يكن الأول الطلاب الدوليين في الجامعة، وهو من القبائل الجرمانية التي تقطن في أجزاء من هولندا وألمانيا، ويُذكر أن هناك اختلافًا حول وقت انطلاق جامعة أكسفورد بالتحديد، لكن هناك شواهد بأنها بدأت في عام 1096 وكان يغلب على طلاب الجامعات أنهم من أسر مقتدرة ماديًا؛ بسبب أن الطلاب غالبًا ما يكونون أجانب أو من مناطق بعيدة، وهذا يتطلب أن يكون هناك دعم مالي للطلاب من قبل أهاليهم، وكما كانت بعض الكنائس تدعم بعض الطلاب ماديًا على شرط التخرج والعمل في تلك الكنائس كرجال دين. وكان الطلاب يستطيعون الزواج خلال دراستهم الجامعية إلا إذا كانوا رهبانًا أو يرغبون في أن يُصبحوا في مناصب قيادية في الكنيسة، لأنه من المتوقع أن يتولى خريجو الجامعات مناصب عليا في الكنائس، وقد كانت هذه العادة من دلالات التدين والتواضع لرجالات الدين في العصور الوسطى، وقد( ) أمر بابا الكاثوليك في عام 1972 بالتخلي عن قصة الشعر المذكورة، كما كانت هناك قيود وشروط صارمة على الزي الجامعي للطلاب والأساتذة. فقد كان الطلاب يسكنون في المساكن كغيرهم من السكان، وكان كثير من الطلاب يعانون من ارتفاع تكاليف الإسكان؛ لذلك حاول البابا كليمنت الثالث مساعدة الطلاب في الجامعات وكذلك في المراكز التعليمية الأخرى، حيث أصدر البابا مرسوما عام 1189 يحظر على الأساتذة والطلاب أن يُعطوا أجرة للسكن تفوق ما يدفعه الأساتذة أو الطلاب الذين سبقوا المستأجر الجديد في السكن، ثم تطورت الأمور وأصبحت الجامعات تفرض على الطلاب المغتربين السكن في نزل معينة تحت إشراف الأساتذة، فقد كان من الواجب على الطلاب أن لا يبقوا خارج النزل الطلابي بعد الثامنة مساءً، وإذا أغلق النزل لا يفتح إلا صباحًا. اهتمت الجامعات الأوربية في العصور الوسطى بتدريس عدد من المواد الدراسية، الأدب اللاتيني، واللغات الأجنبية، وقد تميزت جامعة بولونيا بتدريس القانون المدني، فيما تميزت جامعة باريس بتدريس الإلهيات، أما جامعة ساليرنو فقد برعت في تدريس الطب، وكان التدريس يتم في الكنائس أو منازل بعض الطلبة أو الأساتذة حتى تم تخصيص مقرات دائمة للجامعات من قبل السلطات المدنية بعد ثبوت نجاحها. وفي فترة العصور الوسطى، وقد ركزت القواعد على دراسة اللغة، وشددت البلاغة على فن التحدث والكتابة المقنع، كما تهتم الهندسة بمبادئ الشكل والقياس والعلاقات المكانية، وكان الطلاب يتعلمون أيضًا موضوعات عن علم الفلك بما يشمله من دراسة الأجرام السماوية وحركتها وتأثيرها على الأحداث الأرضية. ) وكان التواصل الشفهي هو السائد، حيث إن الاختبارات والمناقشات كلها تتم بطريقة شفهية. ( ) ثالثاً: التعليم بين سيطرة الكنيسة والتوجه العلماني. كانت العلاقة قوية بين الكنيسة والجامعات الأوروبية في العصور الوسطى بشكل عام، حيث تأسست كثير من الجامعات من مدارس أسقفية، وقد تلقت كثير من الجامعات في تلك الأزمنة مراسيم قيامها من البابا، وكذلك مراسيم من الحكام المدنيين أو ما يسمون الحكام العلمانيين إلا إن الجامعات لم تكن تتجرأ على مخالفة التوجه العام للكنيسة. ) بل حتى إن رجال الدِّينِ مِمَّن ليس لديهم مناصب في الجامعات كانوا يتدخلون في شؤونها، خاصة في التضييق عليها في تدريس فلسفة أرسطو وابن رشد، كما كان لدى رجال الدين تحفظ حول تدريس القانون المدني والقانون الروماني مطالبين باستبدال تدريس القانون الكنسي به وأيضا كان من أهداف كثير من الجامعات الأوروبية في القرون الوسطى تأهيل رجالات الكنيسة واللاهوت في الجامعات القديمة، وهو ما كان يُزعج الأساتذة والطلبة، وهذا الحدث قد وقع في النصف الثاني من القرن الحادي عشر أيضا، مما أثار غضب سائر الأساتذة في جامعة باريس، ويأتي البابا الجديد ألكسندر الرابع( ) لتولي أمور البابوية، ووقف البابا الجديد مع الأساتذة الرهبان، ولم توافق الجامعة على إعادة الأساتذة الرهبان، كانت تستقر في بعض الأوقات، لحاجة الإمبراطورية لكوادر مؤهلين ومتعلمين يخدمون في الإمبراطورية والحكومة بعيدًا عن سطوة بابا روما وقد تمَّ أيضًا تأسيس جامعة أول جامعة في ألمانيا، وذلك بعد الصدع الذي تسبب به تأييد الألمان للبابا في روما على حساب البابا الكاثوليكي المنتخب في فرنسا بعد في زمن الانشقاقات الكنسية،