لوحي كلمة تدلُّ على معانٍ؛ والإلقاء في الرّوع إلهامًا وبسرعة وبشدَّة، ليبقى أثره في النّفس ، وأصله: إعلامٌ في خفاء، ولتضمُّنه السُّرعة قيل: أمرٌ وحي للكلام على سبيل الرّمز. ب- المعنى الاصطلاحي: الوحي؛ معناه: أن يُعلِم الله - تعالى - مَن اصطفاه مَن عباده كلَّ ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، ولكن بطريقة سرِّيَّة خفيَّة غير معتادة للبشر، ويكون على أنواعٍ شتّى، فمنه ما يكون مكالمة بين العبد وربّه؛ كما كلَّم الله موسى تكليمًا، ومنه ما يكون إلهامًا يقذفه الله في قلب مُصطَفاه على وجهٍ من العلم الضّروري لا يستطيع له دفعًا ولا يجد فيه شكًّا، ومنه ما يكون منامًا صادقًا يجيء في تحقُّقه ووقوعِه كما يجيء فَلَقُ الصُّبح في تبلُّجه وسطوعه، ومنه ما يكون بواسطة أمين الوحي جبريل - عليه السّلام - وهو من أشهر أنواع الوحي وأكثرها، 2-معاني الوحي في القرآن الكريم: جاء لفظ الوحي وما تصرف منه في القرآن في ثمانية وسبعين موضعًا، بالاستقراء نجد استعمال لفظ الوحي دلالة على الإعلام الخفي السّريع. وذكر علماء التفسير سبعة أوجه للوحي في القرآن الكريم: -الوسوسة : ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) الأنعام: 112 - الإرسال: ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ) النساء: 163( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ )الأنعام: 19 - الإشارة: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) مريم: 11، والبيان فيما قبلها: ( قَالَ آَيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)مريم: 10 ( آَيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ) آل عمران: 41، والرمز الإشارة بالشفة والصَّوت الخفي، وعبَّر عن كل كلام كإشارة بالرمز، فكان الكلام المستثنى من الحكم هو الوحي والرمز بمعنى الإشارة. - الإلهام: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل ) النحل: 68 (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) القصص: 7، ويخص به بعض أصفيائه"[10]، وهذا خاصٌّ بالبشر، قال الرازي: "قوله ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل) يقال: وحى وأوحى، وهو الإلهام، والمراد من الإلهام أنه - تعالى - قرَّر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر. - الأمر: ( َوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) الزلزلة: 4- 5. -الإعلام: بالإلقاء في الروع وهو خاص بالأنبياء( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا ) الشورى: 51. 3-أنواع الوحي : لتلقي الوحي من الله تعالى طرق بينها الله تعالى بقوله في سورة الشورى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى : 51 . فأخبر الله تعالى أن تكليمه ووحيه للبشر يقع على ثلاث مراتب : المرتبة الأولى : الوحي المجرد وهو ما يقذفه الله في قلب الموحى إليه مما أراد بحيث لا يشك فيه أنه من الله . ودليله قوله تعالى : ( إِلَّا وَحْيًا )-الشورى : 51- . ومثال ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : « إن روح القدس نفث في روعي لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي وابن ماجه في سننه وغيرهم وألحق بعض أهل العلم بهذا القسم رؤى الأنبياء في المنام كرؤيا إبراهيم عليه السلام على ما أخبر الله عنه في قوله : ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) -الصافات : 102- . وكرؤى النبي صلى الله عليه و سلام في بداية البعثة على ما روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « أول ما بدئ به الرسول صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح » المرتبة الثانية : التكليم من وراء حجاب بلا واسطة كما ثبت ذلك لبعض الرسل و الأنبياء كتكليم الله تعالى لموسى على ما أخبر الله به في أكثر من موضع من كتابه . وقال : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) - الأعراف : 143 . وكتكليم الله لآدم . قال تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ( -البقَرة : 37- . وكتكليم الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء على ما هو ثابت في السنة . ودليل هذه المرتبة من الآية قوله تعالى : ( أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) -الشورى : 51 . المرتبة الثالثة : الوحي بواسطة الملك . ودليله قوله تعالى : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } (الشورى : 51) . وهذا كنزول جبريل عليه السلام بالوحي من الله على الأنبياء و الرسل . والقرآن كله نزل بهذه الطريقة تكلم الله به ، وسمعه جبريل عليه السلام من الله عز وجل ، وبلغه جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ )( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ )( عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (الشعراء : 192- 194 . وقال تعالى : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ )-النحل : 102 . ولجبريل عليه السلام في تبليغه الوحي لنبينا عليه الصلاة و السلام ثلاثة أحوال : 1 - أن يراه الرسول صلى الله عليه و سلم على صورته التي خلق عليها ولم يحصل هذا إلا مرتين كما تقدم تقريره في الفصل السابق . 2 - أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس فيذهب عنه وقد وعى الرسول صلى الله عليه و سلم ما قال . وقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم عن الحالتين الأخيرتين في إجابته للحارث بن هشام لما سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : « يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول) البخاري (، ومعنى فصم : أي أقلع وانكشف . 4- وظائف الوحي : -جاء الوحي هدى للناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وينقذهم من الضلال إلى الهدى، ومن ظلمات المعصية إلى نور الطاعة والإيمان. سأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أُبيَّ بن كعب عن التقوى، قال: فما عملتَ؟ قال: شمرتُ واجتهدت؛ قال: فذلك التقوى". قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(البقرة:2)؛ فهذا الكتاب الذي يتحدى بنفي الشك فيه يتوجه بالهدى إلى المتقين الذين يصفهم في الآيات التالية بأنهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}(البقرة:3-4)، ثم يؤكد الله تعالى على مصدر هذا الهدى بأنه من عند الله تعالى حيث يقول: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(البقرة:5). وقد نظم ابن المعتز هذا المعنى فقال: خَلِّ الذنــوبَ صغيرَها *** وكبيــرَها ذاك التُّقَى واصنعْ كماشٍ فــــوق *** أرضِ الشوكِ يحذر ما يرى لا تحـقرنَّ صغيـرةً إنَّ *** الجبــالَ مِن الحَـصَى! قال رسول الله صلى الله عليه و سلم -: "‏مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل ‏الغيث ‏الكثير أصاب أرضا؛ فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت ‏الكلأ ‏والعشب الكثير، وكانت منها ‏أجادب‏ ‏أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، ‏فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" (صحيح البخاري). قال عزّ وجلّ: {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا}(الطّلاق:11)، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(الحديد:9). وأما كونه رحمة لهم فلأنهم لما اهتدوا به قد نالوا الفوز في الدنيا بصلاح نفوسهم، واستقامة أعمالهم، واجتماع كلمتهم، والرّسالة المحمدية وإن كانت رحمة للعالمين كلهم. فرحمته للمؤمنين أخص". قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا}(الإسراء:82). قال تعالى{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الزّمر:41). -مثل الوحي مصدر للإخبار و الوعظ والإرشاد(الإخبار بقصص الأنبياء والأمم السّابقة من قبيل التثبيت والوعظ والإرشاد) . و الشّرع لن يتبيّن إلاّ بالعقل، والعقل كالأسّ و الشّرع كالبناء، ولن يغني أسّ ما لم يكن بناء ولن يثبت بناء ما لم يكن أسّ. فالشرع عقل من خارج و العقل شرع من داخل وهما متعاضدان بل متحدان. ولكونهما متّحدين قال تعالى:"نور على نور"النّور35). -جاء الوحي مواكبا لواقع البشرية و تطوراته فكان صالحا لكلّ زمان ومكان وهذا من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم(نزل القرآن الكريم منجّما في ثلاث وعشرين سنة منسجما مع الوقائع والأحداث ومصالح البشريّة).