مقدمة في ماهية التصوف ومنهجه التصوف ظاهرة عالمية وقد اختلفت الأسماء التي أطلقت على هؤلاء الأفراد في العصور المختلفة، ولكنهم جميعا يدخلون تحت مقولة عامة هي التي تسميها الإنسان الكامل»، ومهما تكن المظاهر المختلفة التي يظهر فيها نضجهم الروحي، والوسائل المتباينة التي يتخذونها في التعبير عنه، أو فلسفة خاصة في طبيعة الوجود، أدرك ذلك من نفسه أم لم يُدركه، وعرف أن له من أجل ذلك فلسفة في الحياة أم لم يعرف ذلك الموقف الواحد العام الذي يشترك فيه هؤلاء القوم الذين نتحدث عنهم يتلخص في أنهم يُنكرون إنكارًا بانا أن «الحقيقة» هي ذلك العالم الواقع المحسوس؛ لأن الواقع المحسوس الذي يتشبث به غيرهم ممن هم أقل منهم نضجا في العقل والروح ويكادون يقدسونه، لا يشبع في طائفتنا نزعاتهم الروحية العالية، ولا يروي فيهم غلة الشوق إلى معرفة الحقيقة المجردة التي تصبو نفوسهم إلى معرفتها والاتصال بها. نجد هؤلاء القوم في الشرق والغرب في العالم القديم والمتوسط والحديث بين أهل الديانات الوثنية القديمة وأهل الديانات السماوية، وكأنهم جميعًا صُبوا من حيث روحانيتهم في قالب واحد، واستمدوا تلك الروحانية من نبع واحد، ويُنير السبيل أمامهم لنيل مطلبهم، وهذه الظاهرة طالما استرعت أنظار القدماء وأشارت إليها مذاهب اللاهوت بأساليب مختلفة. ففلاسفة اليهود - وعلى رأسهم فيلون الإسكندري - يرون أن مصدر الوحي والنبوة واحد في جميع العصور هو ما أطلقوا عليه اسم الكلمة الإلهية»، وكلمنت أحد كبار رجال اللاهوت المسيحي يصف الكلمة الإلهية (المسيح) بأنها القوة العاقلة التي كانت في الوجود قبل أن تتجسد في الصورة الناسوتية ( صورة المسيح وأنها مصدر الحياة والوجود في الكون كما أنها مصدر الوحي والإلهام والمعرفة، وأنها هي التي تكلمت بلسان موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء، ونطقت بلسان فلاسفة اليونان وأوحت إليهم بحكمتهم، ويصف بعض متصوفة المسلمين كابن عربي الحقيقة المحمدية بمثل ما وصف به فیلون وكلمنت الكلمة الإلهية، فيعدها منبع الفيض الروحي والعلم الباطن، فإن دلت هذه الآراء على شيء فإنما تدل على اقتناع قائليها بأن ثمة طائفة من الظواهر الروحية فوق الطور البشري العادي، ثم رد هذه الظواهر إلى أصل واحد يظهر في كل من أفراد الإنسان الكامل بحسب ما توحي به بيئته ودينه وثقافته، فرد واحد يتجدد ظهوره مع دورات الزمن، لا صوفية الإسلام فحسب، بل صوفية كل دين. أما الهدف الذي يهدفون إليه ويُكرسون حياتهم له، فهو الوصول إلى الحقيقة، بل لاقوا حتفهم شنقًا أو صلبا أو إحراقا، فإن تاريخ الإنسانية حافل بالكثير من هذه الأمثلة. أما الدليل القاطع على صدق نزعتهم فاستمساكهم بمبادئهم وتشبثهم برسالاتهم رغم أساليب الاضطهاد والتعذيب والسخرية، وأمام عواصف الإنذار والتهديد، وفيما أثر عنهم من التجارب الروحية التي تختلف في تفاصيلها وأشكالها وصورها، دليل ثالث لا بد لنا من تقدير وزنه قبل أن نقول الكلمة الفاصلة عن النشاط الروحي عند الإنسان وصلته بذلك العالم غير المادي وغير المحسوس. والواقع أن كل إنسان قد أحب يوما ما ذلك الوجود المحجوب» الذي يطلقون عليه اسم «الحقيقة»؛ ذلك لأن الحقيقة شيء أولع الإنسان بالاهتداء إليه منذ أن بدأ يفكر في نفسه وفي العالم المحيط به ليتعرف أسبابه وأسراره ومبدأه ومصيره، ولكن هذا الحب المتأصل في النفس الإنسانية، الذي من شأنه أن يدفع بصاحبه نحو البحث عن الحقيقة المعرفتها والاتصال بها - كما تدفعه غريزة الجوع دفعًا إلى البحث عن الطعام - قد تعوقه العوائق عن الوصول إلى غايته فيضعف أو يموت، فقد يرى بعضهم الحقيقة على نحو ما رأى «دانتي» الشاعر الإيطالي محبوبته بياترس» شيئًا يمت إلى هذا العالم بصلة، والمتدين الورع في محرابه، والصوفي في قلبه، ورجل الفن في جمال الكون وهكذا. ولكن مهما اختلفت الأساليب التي عبر بها طلاب الحقيقة، فإن الصوفية وحدهم هم الذين يذكرون صراحة أنهم شاهدوها وجها لوجه واتصلوا بها، وفي دعواهم هذه نغمة من اليقين وصدق الإيمان. وواحدة غير متكثرة قديم قدم الفلسفة، ذلك أن العالم المحسوس حافل بالظواهر المتكثرة المتغيرة، وطالب الحقيقة المطلقة يطلبها واحدة غير متكثرة، وثابتة غير متغيرة والعالم المحسوس حافل بالأحداث المعلولة، وطالب الحقيقة يطلبها غنية في ذاتها غير معلولة لغيرها، وطالب الحقيقة يطلبها وجودًا لا متناهيا خارجا عن حدود الزمان والمكان لهذا كله تجاوز العقل البشري في طلبه للحقيقة كل مقولات العالم المحسوس، وأخذ نفسه بالبحث عن عالم آخر يستطيع أن يطبق عليه مقولات مضادة، وظهر ذلك التجاوز عن العالم المحسوس في جميع أدوار تطور الفكر البشري من غير استثناء، واتخذ لنفسه صورًا شتى كانت بدائية في أول الأمر،