لم تمت هذه المرأة المسكينة في مفازة منقطعة أو بيداء مِجهْل فنفزع في أمرها إلى قضاء الله وقدره كما نفعل في جميع حوادث الكون التي لا حول لنا فيها ولا حيلة بل ماتت بين سمع الناس وبصرهم وفي ملتقى غاديهم برائحهم، أو أن الوحش أقرب منه رحمة فجاءته تستمنحه فضلة طعامه، ألم يلتق بها أحد في طريقها فيرى صفرة وجهها وترقرق مدامعها وذبول جسمها فيعلم أنها جائعة فيرحمها! ألم يكن لها جار يسمع أنينها في جوف الليل ويرى غدوها ورواحها حائرة ملتاعة في طلب القوت فيكفيها أمره! أأقفرت البلاد من الخبز والقوت فلا يوجد بين أفراد الأمة جميعها من أصحاب قصورها إلى سكان أكواخها رجل واحد يملك رغيفًا واحدًُا زائدًا عن حاجته فيتصدق به عليها! فالمال والحمد لله كثير والخبز أكثر منه ومواضع الخَلات والحاجات بادية مكشوفة يراها الراءون ويسمع صداها السامعون ولكن الأمة التي ألفت ألا تبذل معروفها إلا في مواقف المُفاخرة والمُكاثرة والتي لا تفهم معنى الإحسان إلا أنه الغل الثقيل الذي يوضع في رقاب الفقراء لاستبعادهم واسترقاقهم لا يمكن أن ينشأ فيها محسن مخلص يحمل بين جنبيه قلبًا رحيمًا. لقد كان الإحسان في مصر كثيرًا في عصر الاكتتابات والحفلات وفي العهد الذي كانت تسجل فيه حسنات المُحسنين على صفحات الصحف تسجيلًا يشهده ثلاثة عشر مليونًا من الشهود، أما اليوم وقد أصبح كل امرئ موكولًا إلى نفسه ومسئولًا أمام ربه وضميره أن يتفقد جيرته وأصدقاءه وذوي رحمه ويتلمس مواضع خلاتهم وحاجاتهم ليسدها،