الرسالة قطعة من النثر الفني تطول أو تقصر تبعاً لمشيئة الكاتب وغرضه وأسلوبه ، والنثر الفني الأندلسي يتمثل أكثر مما يتمثل في الرسائل التي أنشأها كتابه وقد حظيت كتابة الرسائل الأدبية بكتاب معظمهم من فرسان الشعر الأندلسي . وإذا بدا تأثر هؤلاء الكتاب في نثرهم بأساليب النثر العربي ومذاهبه المختلفة ، فإنهم استطاعوا بما أوتوا من موهبة شعرية ، ولطف خيال أن يرتقوا بأساليب تعبيرهم وأن يفتنوا فيها ، وأن ينهج كل كاتب منهم في صناعته النهج الذي يرتضيه ويلبي ميوله . ولم تلبث الكتابة الأدبية بالأندلس أن أصبحت على أيدي كبار كتابها أداة تعبير وعرض لشتى الموضوعات ، حتى لقد فاقت الشعر في ذلك بفضل ما في صناعة النثر من المرونة والتحرر من قيود الوزن والقافية . هي التي كانت تصدر عن ديوان الخليفة أو الملك يوجهها إلى ولاته وعماله وقادة جيوشه ، وقد كان لكل خليفة أو ملك كاتبه الذي يتولى الكتابة عنه في كل مهام الدولة وشئونها من رسائل ومنشورات وعهود ومبايعات وغيرها . الا كبار الأدباء والشعراء في عصرهم . التي تهم الناس في كل زمان ومكان . ومن نماذج الرسائل الديوانية ، فإنكم سألتم الأمان أوان للمظت السيوف اليكم ، ولم ينسدل عليكم ستر كهولكم الخلوف (۲) عنكم . ولولا تحرجنا أن نقطع أعضاد هم بكم ، ورجاؤنا أن يكون العفو على المقدرة تأديبا لكم ، لشربت دماء كم سباع الكماة ، وأكلت لحومكم ضباع (4) الفلاة . حتى تحصد كم ظ وتقتضي ديون أنفسكم غرماء الحتوف (1) » . وهو كتاب مبايعة يقول فيه : « بايع الإمام عبد الله فلان بانشراح صدر وطيب نفس ونصاحة جيب وسلامة غيب ، ويعطيه على ذلك كله ذمة الله وذمة محمد رسوله وذمة الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين ، فعليك المشي إلى بيت الله الحرام ببطحاء مكة من مستقرك ثلاثين حجة" ، أو تنكحها إلى ثلاثين سنة فطالق تحتك" طلاق" الحرج ثلاثا . وكل مال لك من صامت أو ناطق أو تملكه إلى ثلاثين سنة غير عشرة دنانير أو قدرتها ، وعلى الأعمال والنيات مشيبا (1) ما انعقد عليك في هذه البيعة شهيد ، ضاعف الله بمزيد النعم سروركم ! وتكفل بلطف الخفي في مثل هذا القطر الغريب أمور كم ! أبشركم بما كتب به سلطانكم السعيد اليكم ، نعم الله عليكم ! أمنع الله الإسلام ببقائه ! وأيده على أعدائه ! ونصره في ضه بملائكة سمائه ! وأظفره بيطرير (٢) البلد الذي فجع المسلمين بأسرهم فجيعة" تثير الحمية ، ولهذا استخدم له الأسلوب الذي يروع ويخيف بالكلمة المشبعة بالوعيد ، والكنايات التي تومىء ولا تصرح بما يبيت لهم إن هم غ م غدروا . فإن قيمة الأسلوب فيه ليست في صوره البيانية ، وإنما هي في شروط البيعة الغريبة التي بلغت حد التعجيز ، ودلت في الوقت ذاته على عقل كاتبها . والرسالة كما نرى خالية من الأساليب البيانية والبديعية ، وبلاغتها تتطلب استخدام الألفاظ في معانيها الحقيقية لا المجازية ، ومع ذلك فالذي يرجع إلى رسائل ابن العميد الديوانية يستطيع أن يرى مقدار تأثر ابن برد بأساليبها . أما أسلوب لسان الدين بن الخطيب في رسالته التي يبشر فيها بالفتح فيبدو فيه التأثر بأسلوب القاضي الفاضل من حيث التزام السجع ، وهذا النوع من الرسائل ميدان فسيح للإبداع يتبارى فيه الكتاب والأدباء ، وأن يعبر أصحابها عن عواطفهم الشخصية في لغة مصقولة منتقاة ، وقد اعترف النقاد بقيمة الرسائل الإخوانية ، تسهل له فيها ما لا يكاد و الرسائل الإخوانية أنواع شتى أوصلتها صاحب كتاب « صبح الأعشى » وبعض هذه الأنواع يندرج تحتها أضرب كثيرة . طرقوا في رسائلهم هذه موضوعات شتى ، والإشادة ببلاغة بعضهم . وفيما يلي بعض نماذج من رسائلهم الإخوانية للاستدلال بها على طبيعتها وأساليبها وطرق معالجتهم لها وتناولهم لموضوعاتها : . في عتاب صديق يقول فيها : عتهندي بك وصلتنا تفرق من اسم القطيعة ، ومودتنا تـجـل عن صفة العتاب ونسبة الجفاء ، و أضجرت رسلك وكثير ما يكون عتاب المتصافـيـيـن حيلة تسبر المودة بها ، ومن رسائل الفتح بن خاقان الذي كان يعيش في عصر المرابطين رسالة بعث بها إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ، و أطال الله تعالى بقاء الأمير الأجل سامعاً للنداء ، وأوضحت له إلى الاستطالة لما علم أنك لا تنكر عليه نكراً ، ولتسكن بك الفلاة والغـور . فكيف أرسلت زمامه حتى جرى من الباطل في كل طريق ، وستقف بين يدي عدل حاكم ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . قيم تحتج معي لديه ، إذا وقفت أنا وأنت بين يديه ؟ أترى ابن زهر ينجيك في ذلك المقام ، أو يحميك من الانتقام ؟ وقـد أوضحت لك المحجة (1) ، وهو بكل خلق صير ، حتى حكم القهر ؟ وهل للعين أن تسلو سلو المقصر ، عن سرها الرائي و المشاهد ؟ وفي الجسد مضغة" يصلح إذا صلحت ، فكيف حاله إن رحلت عنه ونزحت ؟ وإذا كان الفراق هو الحمام الأول ، وينظر إليه على أنه شاعر الغزل الأول في الأندلس ، فإنه قد عرف كلكك بنثره الفائق الذي يقع معظمه في باب الرسائل الإخوانية . والرسالة العبادية (٢) وأهم هذه الرسائل رسالتاه الشهيرتان : الجدية ، كتب الأولى وهو في السجن لأبي الحزم بن جهور امير قرطبة أيام الفتنة ، أما الرسالة الهزلية فقد كتبها على لسان ولادة بنت المستكفي لمنافسه في حبها الوزير أبي عامر بن عبدوس ، . ومن رسالة ابن زيدون الجدية في عتاب أبي الحزم بن جهور واستعطافه ه يا مولاي وسيدي الذي ودادي له ، وأحس الحماد باستنادي اليك – فلا غرو (٢) : قد بغض ويقتل الدواء المستشفي به ، ومنها : « وأعود فأقول : ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك ؟ والجهل الذي لم يأت من ورائه حلمك ؟ والتطاول الذي لم يستغرقه تطولك (4) ؟ والتحامل الذي لم يف به احتمالك ؟ ولا أخلو من أن أكون بريئا فأين العدل ؟ أو مسيئاً فأين الفضل ؟ ونالني ما حسبي به وكفى ! وما أراني إلا لو أني أمرت بالسجود لآدم" فأبيت واستكبرت 7) وقال لي نوح : « اركب معنا » فقلت : « سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ، ا فكيف ؟ ولا ذنب لي إلا نميمة" أهداها كاشح (۸) ، والسعاة الذين ذكرهم الأحنف بن قيس فقال : «ما ظنك بقوم الصدق' محمود" إلا منهم ) . حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهـب ولا نصبت لك بعد التشيع فيك ففيم عبث الحفاء بأذمتي (6) وعات العموق' في مودتي ؟ وتمكن الضياع" من وسائلي ؟ ولم مذاهبي ، الضعيف ؟ ولطمتني غير ذات سوار (7) ؟ وما لك لا تمنع مني قبل أن أفترس ، ومن رسالة ابن زويدون الهزلية التي كتبها على لسان ولادة يسخر فيها من ابن عبدوس منافسه في حبها قوله : وإنك راسلتني مستهديا من صلتي ما صغرت منه أيدي أمثاليك متصديا من خلتي (1) لما قرعت دونه أنوف أشكالك ، ولست بأول ذي همة دعته لما ليس بالنتائـل ولا شك أنها قلتك إذ لم تضين بك ، وملتك إذ لم تغر عليك فإنها أعذرت في السفارة لك (٢) ، زاعمة" أن المروءة" لفظ أنت معناه، والإنسانية اسم أنت جسمه وهيولاه (۳) ! قاطعة أنك انفردت بالجمال ، واستغليت في مراتب الجلال واستوليت على محاسن الخلال ، حتى خيلت أن يوسف عليه السلام حاسنك فغضضت منه (4) ، وأن امرأة العزيز رأتك فسلت عنه ! وأن قارون أصاب بعض ما كنزت . والاسكندر قتل دارا (6) في طاعتك ، وأن إياس 7) ابن معاوية إنما استضاء بمصباح ذكائك ، وأن الحجاج تقلد ولاية العراق بجدك ، وقتيبة (8) فتح ما وراء النهر بسعدك ، والمهلب (9) أوهن شوكة الأزارقة بأيدك ، وأن أفلاطون أورد" على أرسطـطاليس " ما نقل عنك » . طويل العنق والعلاوة (3) مفرط الحمق والغباوة ، وضحكك قهقهة ومتشيك هرولة، وغناك(5) مسألة ودينك زندقة ، ما أمهرن" إلا بالطلاق ۷) . فابن برد وابن خاقان كلاهما متأثر بأسلوب ابن العميد وتلاميذ مدرسته الكتابية ، ومن الممكن إدراك أهم الخصائص الأسلوبية لهؤلاء الكتاب الأندلسيين من واقع النموذج الذي اخترناه لكل واحد منهم . فأسلوب أبي حفص بن برد الأصغر في رسالته يتميز بسهولة الألفاظ وحسن وإن كان السجع هو الغالب . والاستعانة ببعض أنواع البديع الأخرى كالجناس والطباق . الدعاء وصيغ الحمل بين الخيرية والإنشائية ، وأسلوب لسان الدين بن الخطيب يلتقي مع أسلوب ابن خاقان في تنوع الإكثار منها ، ثم يفترق عنه في طول الرسائل إلى حد الإملال ، والجمع بين شعره ونثره في رسالة واحدة ، ومع الاستشهاد في ثناياها ببعض أشعار الآخرين . مع الإجمال فأسلوبه شديد الشبه بأسلوب القاضي الفاضل . وتأديته بعدة جمل قصار متتابعة تبدو في الظاهر ترادفاً وتكراراً ، كذلك يلتقي الأسلوبان في دمائة الألفاظ وعذوبتها ، ثم ينفرد أسلوب ابن زيدون بعد ذلك بالاكثار من الإشارات التاريخية ، السخرية التي تستخرج أشد الضحك ، المقذع لابن عبدوس . وقدرة في التهكم بها على ابن عبدوس منافسه في الحب والسياسة . ويدعي أنه مفرط الطول وكان مربعاً ونحسبه لسعة جفرته و استفاضة خاصرته مد ورا ! وكان جعد (٢) الأطراف قصير الأصابع . . قال عمرو بن بحر الحاحظ : وكان طويل" الظهر قصير عظم الفخذ ، وهو مع قصر عظم ساقه يدعي أنه طويل الباد" ، حديث الميلاد وكان ادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهليها بها ، على قدر غباوته فيها ! وكان كثير الاعتراض لهجا بالمراء . . قد علمت ـ حفظك الله ـ أنك لا تحسد على شيء حسدك على حسن القامة ، وإنما يحسد أبقاك الله المرء شقيقه في النسب ، ونظيره في الحوار على طارف خصائصال التي بها تكلف قدره ، وأنت تزعم أن هذه المعاني خالصة لك ، وأن لك الكل وللناس البعض ، وأن لك الصافي ولهم المشوب ، نبلغه (۲) » . وقد كان أبو حفص بن برد الأصغر أسبق من ابن زيدون في تأثره بأسلوب الجاحظ التهكمي الساخر ، أما رسالته في النخلة فيذكرنا أسلوبها الهزلي الساخر بأسلوب رسالة « الت والتدرير » الحاحظية في هذه الرسالة يعاتب ابن برد بخيلا كنی بأبي عبدالله كان قد وعده بأن يهدي اليه قليلا من جنى نخلته ثم أخل بوعده . وقد سألناك من - ن لكم ب « أما بعد : جعلك الله من المؤثرين على أنفسهم والموقين شحتها و المنجزين لمواعيدهم والمعطين صدقتها . وأسلمتها إلى يد البيلى حتى إذا أخذت النخلة زخرفتها ، رأينا على ذلك طلائع الرطب في الأسواق، والجني من بكثر النخيل الخيبة ، فركضنا الهماليج (٢) إلى حرمتك ، وجعلنا نشتد طمعاً في لقائك. حتى يأتي على ذكر حديث الرسول القائل : « نعمت العمة لكم النخلة ، وأنت قد استوليت على عمة من عماتهم تستبد بخيرها دونهم ، ونستغفر 6 أتينا نعتفيها (۳) الله ونسأله أن يبد لنا من بخلك نوالا ، نابن برد في رسالته « البديعة » يرد على من عابه باستعمال جلود الشتاء (9) بأسلوب أشبه بأسلوب الجاحظ في الرد على من عاب سهل بن هارون بشدة (۱) الحرص والتدقيق في التدبير وإنفاق المال ولعل في الفقرتين التاليتين ما يوضح مدى التماثل بين أسلوب الكاتبين وطريقة تناولهما للموضوع . وأي بساط منها أدل على التواضع وأعرب عن القناعة ، والمحافظة على والحاحظ في رسالته على لسان سهل بن هارون يقول : «وعبتموني بخصف (3) الشعال القميص ، وحين زعمت أن المخصوفة أبقى وأوطا وأوقى ، وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكسبين كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين (*) . ومن قبيل الرسائل الإخوانية رسائل الاستغاثة التي كان يوجهها الأندلسيون إلى إخوانهم ملوك المغرب وغير المغرب في العهود الأخيرة ، ومن أمثلة ذلك الرسالة التي كتبها لسان الدين بن الخطيب على لسان سلطانه الغني بالله بن الأحمر إلى سلطان مصر المنصور أحمد بن قلاوون يعلمه فيها بأحوال الأندلس ويطلب منه العون على استحياء . م ومكان ذكر فيها نعوت وأدعية تصل في كثرتها إلى حد السأم والإملال ، فتعبر عنه في كلمات يغلب عليها تنتهي التلميح لا التصريح ،