يُعرف الفصل الثالث الثقافة التقليدية بأنها أقدم ثقافة بناها الإنسان، سادت الحياة الاجتماعية عبر تاريخ البشرية، وتتوسع وتتشعب وتتعقد بتعقد الحياة الاجتماعية في المجتمعات المتخلفة. لا يُطلق عليها "تقليدية" لكونها قائمة على تقاليد محضة، بل لعجز الأفراد والشبكات والجماعات عن التحكم بمعيشتهم ومصيرهم. يتجلى هذا العجز في طريقة تعبيرهم اللغوية، وهي خليط من مفردات لغات مختلفة مع نطق محلي، قواعدها بسيطة، وتعتمد على اقتباس التقنيات العصرية من لغات أجنبية، مُكيّفة حسب واقعهم الاجتماعي دون إنتاج جديد. يُفضلون هذا الخليط اللغوي حتى لو أتقنوا لغة أخرى مثل العربية، رافضين ضمنيًا المساهمة في التجديد الاجتماعي. هذا التعبير يُعتبر مؤشرًا لمواجهة التجديد، مُعرقلاً لتطور المجتمع، لعدم وجود قواعد لغوية نحوية أو صرفية واضحة. لإحاطة هذا العجز، يجب أولاً التوقف عن ربط هشاشة المجتمعات بتوابع الاستعمار أو التنافس الدولي، والاعتراف بأن هشاشتها ترجع للثقافة التقليدية التي تُعجزها عن مواجهة تحديات العصر. ثانيًا، يجب الاهتمام بالفهم الدقيق لكيفية تنظيم وتسيير الحياة الاجتماعية بواسطة هذه الثقافة، قبل بروز الحداثة والعصرنة، لمتابعة تعامل الإنسان مع محيطه الخارجي المادي (جغرافي ومناخي) الذي كان ومازال مصدرًا لمعيشته وأخطاره، خاصةً في ظل تقلباته وانعدام وسائل الوقاية. لذا تُعرّف الثقافة التقليدية بأنها سلسلة تجارب اجتماعية يعيشها الأفراد والجماعات في محيط عدواني، تتميز بالخطر، وعدم الأمن، وعدم الاستقرار، وعدم التحكم في وسائل المعيشة، وهذه الركائز تتوسع وتتشعب بتعقد التحارب الاجتماعية. هذه الركائز لا تستمد حيويتها من المحيط الجغرافي والمناخي فقط، بل من عناصر الحياة اليومية في المجتمعات المتخلفة، كما يتجلى في مثال الفيضانات في الجزائر (2001 و 2007) التي كشفت عن هشاشة التمدن، ونقص خطط الحماية الحكومية، وانعدام الثقة بالسلطات بسبب مخالفات البناء. غياب السلطات يُسبب مشاكل تدعم التجارب الاجتماعية للثقافة التقليدية، كما في ظاهرة الشباب الذين يستغلون الظروف (كفيضانات) لنهب ممتلكات الناس وفرض "ضرائب" بالقوة، مستفيدين من دعم اجتماعي وقانوني ضمني. هذا يعرض المواطنين لسلطتين متضادتين: السلطة الرسمية الغائبة، والسلطة الموازية للشباب. يُطرح السؤال: كيف يمكن للمواطنة أن تقوم بشروط الحياة المعاصرة مع هذه الهشاشة الداخلية؟ هناك خمس ملاحظات: أولاً، عدم ضمان المستقبل الاجتماعي بسبب سعي بعض الشباب لكسب الأموال دون جهد. ثانيًا، تجسيد هشاشة المجتمع في البنايات وحرص الجزائريين على تحصين منازلهم. ثالثًا، تغذية الهشاشة للأخطار وعدم الأمن وعدم الاستقرار في جميع الأوساط. رابعًا، ترك هذه الهشاشة بصمات في الوعي واللاوعي الجماعي، كالتعامل مع غياب فعالية المؤسسات. خامسًا، ترك بصمات في الوعي واللاوعي الفردي، كما يتجلى في حالة المرأة الجزائرية الهشة حتى تصبح أما، وتخوفها من العزوبة والطلاق، مما يجعلها تحمل بسرعة، مُرسخة بذلك ركائز الثقافة التقليدية في اللاوعي الفردي. هذا التناسب بين اللاوعي الفردي والجماعي والثقافة التقليدية يُعتبر مؤشرًا لمواجهة التحديد الاجتماعي. بعد الثورة الزراعية والصناعية، انتشرت الثقافة التقليدية عالميًا، ثم حُصرت في البلدان المتخلفة. تبدو الإنسانية وكأنها تتميز بقدرات مختلفة، لكن المتابعة العلمية تُظهر أن القاسم المشترك هو تأثير المحيط الخارجي على الحياة، رغم اختلاف هذا التأثير من منطقة لأخرى. تختلف الثقافة العصرية عن التقليدية في إرادة التحكم في الحياة والمصير، لكن كلاهما مبني على علاقة معينة بالمحيط الخارجي. تُغيّب الثقافة التقليدية في جميع الأقطار المتخلفة، وهو مؤشر لمواجهة التحديد الاجتماعي. يُفضل الجزائريون إثبات أن مجتمعهم حديث بدلًا من الاعتراف بالثقافة التقليدية، ويُبرر الأميون جهلهم، والمثقفون يستندون لدراسات تُظهر تحطم المجتمع الجزائري عبر التاريخ، متجاهلين دور الثقافة التقليدية في بقاء المجتمع رغم المشاكل. تُبين المتابعة العلمية أن الثقافة التقليدية ما زالت مُتحكمة في المجتمع الجزائري، مستغلة الأحداث والمواسم لتغذية النظام الاجتماعي. يُعزى تغييب الثقافة التقليدية لسبب مزدوج: مواجهة القرار الإلهي في الإسلام، ومواجهة العصرنة للحفاظ على الطاقة البشرية. يُغيّب الجزائريون الثقافة التقليدية للاستفادة من الإسلام والعصرنة دون مراعاة شروطها. يُبين التحليل العلمي أن الجزائريين لم يذوبوا في الإسلام، بل وظفوه، ويحاربون شروط العصرنة ويستفيدون من مزاياها في آن واحد. يُغيّب المثقفون الثقافة التقليدية لأسباب اجتماعية، ولأنها خفية. يتكامل هذان الأمران لربط المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بتدخلات خارجية، وهو مؤشر خامس لمواجهة التحديد الاجتماعي. يُذكر ابن خلدون وجاك بيرك كمثالين على عالمين عالجوا قضايا اجتماعية وسياسية نابعة من الثقافة التقليدية دون الإشارة إليها، لأسباب تتعلق بهويتهما ومغزى الثقافة التقليدية. يُظهر عمل محمد أركون صعوبة فهم الثقافة التقليدية دون قطيعة ابستمولوجية. تُفتح هذه القطيعة باب التحليل العلمي أمام أطروحة تقر أن مصير الثقافة التقليدية مرتبط بالعجز الذي تقوم عليه، وأمام ملاحظات ميدانية تُظهر انتشارها في المجتمعات المتقدمة، لكن بطريقة خفية. تُقدم ست ملاحظات تُظهر ظهور عناصر الثقافة التقليدية في المجتمعات المتقدمة في مواقف مختلفة: التعاون في الكوارث، استغلال الفرص في تعطل إشارة المرور، استخدام ممارسات تقليدية للوصول في الوقت المحدد، تخصيص النقل حسب الجنس لتقليل التحرش، نهب البضائع من سفينة غارقة، والادخار عند ندرة السكر. يمكن النظر للمشاكل في الجزائر على أنها ناجمة عن مواجهة تهدد الثقافة التقليدية ونظامها الاجتماعي، داخليًا أو خارجيًا. تُبرز التجارب التي تُكوّن الثقافة التقليدية معانيها عند تكرارها وتراكمها، مُكوّنةً أمثالًا تُستخدم لتنظيم وتسيير الحياة الاجتماعية، وتلقين الأجيال الجديدة. تختلف الأمثال حسب اختلاف تقلبات المحيط الخارجي، بعضها يعبر عن عدوانية المحيط، والبعض الآخر عن أنواع مختلفة من تقلباته. تشير الأمثال لأنواع المواقف والسلوكيات، وتُعتبر كتربية مستمرة. يخطئ من يُنسب هذه الأمثال للشرائح الشعبية فقط، فهي مُشتركة بين جميع فئات المجتمعات المتخلفة. يُصيب من يُثبت أن المجتمعات غرقت في تخلف لاحتفاظها بثقافتها التقليدية واستغلال نتائج العصرنة دون مراعاة شروطها. يُصعب تقديم طريقة توظيف جميع الأمثال لعدم تسجيلها في جميع المناطق، وما سُجل لم يكن من أجل دراسة تنظيم وتسيير الحياة الاجتماعية. يُمكن تقديم النظام الاجتماعي القائم على هذه الثقافة ومتابعة المواجهة التي تحركه.