صلابةَ بُنيان . مِحَنٌ وشدائد تعصِفُ بأُممٍ فتسقُطُ وتهوِي، وتتعمَّقُ جُذورُها، وثُلمةٌ في البُنيان يُرَى صدعُه. وقوِيَت الصِّلات في لقاء البَيعة، ومشهَد تراصِّ الصفوف؛ وسيُسجِّلُ التأريخُ لوُلاة أمرِنا وعلمائِنا وبنِي قومِنا هذا اللقاءَ المَهيب، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح: 10]. وقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «ومن بايَعَ إمامًا فأعطاهُ صفقَةَ يدِه، وثمرَةَ قلبِه فليُطِعهُ إن استَطَاع». بَيعةٌ وَقَتِ البلادَ الشُّرورَ، ودخلَ الناسُ بها ساحةَ الأمان. ولا جماعةَ إلا بإمارة، قال الإمام الماورديُّ – رحمه الله -: "لا بُدَّ للناسِ من سُلطانٍ قاهرٍ، وتجتمِعُ بهَيبَتِه القلوبُ المُتفرِّقة، وتُقمَعُ مع خوفِه النفوسُ المُتعانِدة والمُتعادِية؛ لأن في طبائِع الناس من حبِّ المُغالَبَة والقهرِ لمن عانَدُوه ما لا ينكَفُّون عنه إلا بمانعٍ قويٍّ ورادِعٍ ملِيٍّ". اهـ كلامُه – رحمه الله -. أمرَنا الإسلامُ بلُزومِ جماعةِ المُسلمين؛ فهي المخرَجُ والمنجَا – بإذن الله -؛ قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «من أرادَ بُحبُوحةَ الجنة فليلزَم الجماعة؛ ويدُ الله على الجماعة، يُسدِّدُهم متى ما كانوا على الحقِّ مُجتمِعين، وطاعةِ الله وطاعةِ رسولِه سالِكين؛ قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثُ خِصالٍ لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، فإن دعوتَهم تُحيطُ من ورائِهم». لقد بدأَ البَيعةَ العلماءُ في ملحَمةِ اللُّحمةِ بين الحُكَّام والعُلماء. فالعُلماء مناراتُ الهُدى، وهم في وطنِنا لبِناتُ بناءٍ مع حُكَّامنا، وضَربِ مواقِفِهم للوَقيعَةِ بينهم وبين الحُكَّام، وبثِّ تيارات الغُلُوِّ والضلال. قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «ومن ماتَ وليس في عُنقِه بَيعَةٌ ماتَ ميتةً جاهليَّة». ويكفِي في بَيعَة الإمام أن يقَعَ من أهلِ الحلِّ والعَقد، ولا يجِبُ على كل واحدٍ أن يأتي إلى الإمام فيضَعَ يدَه في يدِه ويُبايِعُه. ومن مُقتضَى البَيعَة: النُّصحُ لوليِّ الأمر، والدعاءُ له بالتوفيق والهداية، ليُهيِّئَ الله له وزيرَ صدقٍ يُعينُه على الخير، والواجبُ على الرعيَّة وعلى أعيانِ الرعيَّة: التعاوُنُ مع وليِّ الأمر في إقامةِ الدين، وإصلاحِ أحوال المُسلمين بكلامٍ طيِّبٍ وأسلوبٍ حسنٍ. والوطنُ بجميعِ فِئاتِه كالجَسَدِ الواحِد: المودَّةُ شِعارُه، وللمودَّة بين الوُلاة والرعيَّة أهميةٌ كُبرى ومزِيَّةٌ عُظمى؛ قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «خِيارُ أئمَّتكم الذين تُحبُّونَهم ويُحبُّونَكم، قالوا: قُلنا: يا رسولَ الله! أفلا نُنابِذُهم عند ذلك؟ قال: «ما أقامُوا فيكم الصلاة، والأُلفَةَ الفاعِلة بين الحاكِم والمحكُوم، الأمرُ الذي أزهَقَ كيدَ المُتربِّصين، وعلا صوتُ الحقِّ والعدل، قال الله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال: 63]. قال ابن مسعودٍ – رضي الله عنه -: كان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يمسحُ مناكِبَنا في الصلاةِ ويقول: «استَوُوا ولا تختلِفُوا فتختلِفَ قلوبُكم». إن هذه البلادَ تمُرُّ بتحديَّاتٍ عظيمة، وهي مُستهدَفةٌ لقَطعِ جُذورِها، فهي عصِيَّةُ على الطُّغيان، شديدةُ البأسِ على العُدوان، سيحفَظُها الله بيَقَظَة وُلاة أمرِها، وإخلاصِ عُلمائِها، بالقولِ أو بالفعلِ أو بحملِ السلاح، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام: 159]، وقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «لا تختلِفُوا؛ فإن من كان قبلَكم اختلَفُوا فهلَكُوا». ويقولُ مُعاويةُ بن أبي سُفيان – رضي الله عنهما -: "إياكم والفتنة، لقد ماتَ حاكمٌ وقامَ بالأمر حاكمٌ، وقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «فإن هذا القرآن سببٌ طرَفُه بيدِ الله وطرَفُه بأيديكم، فإنكم لن تضِلُّوا ولن تهلِكُوا بعدَه أبدًا». مات عنَّا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يترُكنا همَلاً نقتَاتُ على موائِدِ اللِّئام، ويمَّمَت هذه البلادُ شطرَ البيت الحرام، في مناهِجها وجامِعاتها ومحاكمِها. ويمَّمَت هذه البلادُ شطرَ المسجِدَين المُبارَكَين، تُحيِي بهما الذكرَى المُبين، وترفعُ بهما رايةَ الإسلام العظيم، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18].