فترة سكون في ظلام يجب أن يقضيها كل إنسان في كل يوم. واسترجاع لما قطّر من عُصارة العقول وهي فوق ذلك أدعى لصفاء الذهن وصحة التفكير، فهناك ضرب خير من النوم هو أويقات يمضيها في هدوء وسكون وظلام، يكون فيها منتبهًا نائمًا، كما يلذ لذة الصحو، ويلمع في روحه قبس أشبه ما يكون بالإلهام، أو اللمحة الدالة فتكون خيرًا من ساعات وساعات يقضيها في العمل، وبين المحبرة والقلم، في سكون الظلماء يرى الإنسان بعينه ما لا يراه في الضياء، على أنه هو لا يرى بعينه فحسب، والأشجار في حفيفها؛ فكأنه منح من الحواس أضعاف حواسه، وملك من الملكات ما لا يعد بجانب ملكاته؛ وكأن عالم الصخب والجلب يغشي عينه، فلئن كان الصوت في عالم الحس له حدود، فإذا قلت تموجاته عن حدوده أو زادت انعدم السمع، فليس في عالم الروح حدود للصوت؛ ولئن كانت العين في عالم الحس لا تدرك من الألوان إلا أقلها، فعيوننا وآذاننا الروحية تستعين بالسكون والظلماء، أكثر مما تستعين بالضوء والهواء. إنى لأرثي لهؤلاء الذين يضيعون كل حياتهم في هزل، بل أرثي أيضًا لهؤلاء الذين يقضون أوقاتهم بين بحث علمي، وأعتقد أن هناك عنصرًا في الحياة ينقصهم وهو عنصر التأمل؛ ولست أعني بالتأمل ذلك الضرب من الأسلوب المنطقي العلمي في البحث والتفكير، وفيه يعرف نفسه على حين أنه يعرف غيره أكثر مما يعرف نفسه، وفيه يجلس إلى نفسه ويصادقها ويصارحها، على أن أكثر الناس يجالسون الناس ولا يجالسون أنفسهم، وإن كانت حصصه تمتاز بأنها في ميسور كل إنسان، إنما هي من قبيل تربية النفس بالنفس، وليست تحتاج إلى مران واعتياد وعرفان بكيفية السلوك. أول دروسها أن تخلو بنفسك، ولا يكون ذلك إلا في هدوء وسكون، وخير أن يكون في ظلام، واستعرض نفسك من حيث بدنك كيف تؤذيه ببعض عاداتك، وعلاقتك بالناس واستعراض ما يكون منك ومنهم. وأرقَ إلى خطوة ثالثة تسائل فيها نفسك: ما غايتك وما مبادئك في الحياة؟ وهل وضعت لها خططًا؟ وما مقدار تقدمك إليها أو تأخرك عنها؟ سيسلمك ذلك — من غير شك — إلى خطوات أوسع، وستكون لك في النهاية فلسفة لا من جنس فلسفة أفلاطون وأرسطو، ولكنها فلسفة شخصية قد بنيت على تأملك وشعورك لا على حفظك وقراءتك. وستتصل من هذا الطريق بأفق أوسع وملكوت أعلى. من غير أن ينتظروا أن يتنبهوا بموتهم. ويدعو إلى النشاط والعمل لا إلى الخمول والسأم. ولعل الإنسان يجد في الركون إليه بعض أوقاته راحة مما رمتنا به المدنية الحاضرة من عناء،