ثم تحدث عن الاشتقاق الأصغر : ويبين أنه أكثر أنواع الاشتقاق ورودا ، وهو تقليب تصاريف الكلمة حتى يرجع منها إلى صيغة هي أصل الصيغ كلها دلالة اطراد أو حروفا غالبا، كضرب فإنه دال على مطلق الضرب فقط أما ضارب ومضروب مضرب واضرب فكلها أكثر دلالة وأكثر حروفا وكلها مشتركة في ضرب وفي هيئة تركيبها ثم تحدث العلماء الذين ألفوا في الاشتقاق كما بين أن العلماء قد انقسموا فمن القدماء من أنكر الاشتقاق بأنواعه زاعمين أن الكلم كله أصل وهناك من زعم أن كل الكلم مشتق، أما الرأي العلمي الجدير بأن ينتصر له فهو ما ذهب إليه المؤلفون في الاشتقاق من أن بعض الكلم مشتق وبعضه غير مشتق. ويخبر أن الكلمة قد دلت على معناها في أول الوضع على الحقيقة ثم اتسع بعد ذلك ودلت على معان أخرى عن طريق المجاز، ويرى أن المعنى الحسي أسبق في الوجود من المعنوي المجرد. ويصل من هذا إلى أن أصل الكلمات المشتقة هو الاسم لا الفعل وهو بهذا ينتصر لرأي البصريين ويرى أيضا أن المشتقات من أسماء الأعيان. وعلى ضآلة ما وفروا من شواهد لا نجد هذه الجواهر إلا أصولا للاشتقاق معروفة موضوعة قبل أن تعرف أسماء المعاني أو توضع. فمن ذا الذي يصدق أن مصدر التأبل أي اتخاذ الإبل قد وضع قبل أن يوضع إبل نفسه ؟ أو أن مصدر التأرض اللصوق بالأرض وضع قبل لفظ الأرض؟ أو أن مصدر الاحتضان وضع قبل لفظ الحضن؟ أو التضلع قبل الضلع ؟ أو التبحر قبل البحر ؟ أو السمو قبل السماء ؟ إن البداهة تقضي بوجود أسماء الأعيان المشاهدة المرئية التي تناولتها قبل أسماء المعاني التي تطورت وانتقلت في مضايق الحس إلى آفاق النفس، وإن أصبت أذنه فقد أذنته، أو كبده كبدته، ويستدرك حتى يبرهن على أن الاشتقاق من أسماء الأعيان مقدم على الاشتقاق من أسماء المعاني. أما الاشتقاق الكبير : فيقول : هو عبارة عن ارتباط مطلق غير مقيد بترتيب بين مجموعات ثلاثية صوتية ترجع تقاليبها السنة وما يتصرف من كل منها إلى مدلول واحد مهما تغاير ترتيبها الصوتي. على أن هناك من حاول أن يربط بين هذا الاشتقاق ويجعله في جميع اللغة في الثنائي أو الثلاثي والرباعي والخماسي إلا أن التكلف في ذلك واضح. وقد كان ابن جني يترفق ولا يبالغ فقال : واعلم أنا لا تدعى أن هذا مستمر في جميع اللغة، كما لا ندعى للاشتقاق الأصغر أنه في جميع اللغة بل إذا كان ذلك الذي هو في القسمة سدس هذا أو خمسه، فقد قال: وإذا كان ابن جني على ولوعه بهذا الاشتقاق الكبير أو الأكبر كما يسميه يترفق فيه ولا يبالغ ، فقد تكلف بعضهم فيه وفي غيره تكلفا لا يطاق، وغيرهما مسلكا عجيبا في ترتيب الكلمات فكان كل منهم حين يعرض لشرح كلمة من الكلمات يذكر معها تقلباتها، ويذكر معنى كل صورة من صورها دون التعرض للربط بين مدلولات تلك الصور . فلما جاء أصحاب الاشتقاق من أمثال ابن جني وابن فارس ربطوا أيضا بين دلالات تلك الصور، وسمي هذا بالاشتقاق الكبير. فحاول دراسة عمل كل من ابن دريد في جمهرته والذي يشبه كتاب العين في التقاليب، لأنه لم يتوفر له كتاب العين، ثم يأتي بما قام به ابن فارس من القول في الأصول لمادة جبر وتقليباتها وما قام به ابن جني من ربط بين هذه المعاني وجعلها تدور حول الشدة والقوة. فيقول : إن النظرة الأولى إلى صنيع ابن جني في هذه التقاليب لا تخطئ التكلف البعيد الذي وقع فيه، وهو يلتمس الطريق نحو الرابط السحري العجيب الذي يرد هذه التقاليب جميعًا إلى أصل واحد وإمام منقاد ولكن الرابط الذي اهتدى إليه ابن جني ليس عاما وحسب، بل هو شديد العموم، فهل ترى أعجب من أن تفسر هذه التقاليب كلها وجميع الصور المتفرعة عنها رغم ما لكل منها من مفهوم دقيق وإيحاء خاص بهاتين الكلمتين العامتين المتوغلتين في العموم: القوة والشدة؟ لرأينا ابن فارس في هذا الموضوع أكثر اعتدالا وأهدى سبيلا، تبعا لمنهجه في معجمه، لم يفسرها جميعًا بالقوة والشدة جملة واحدة بل رد بعضها إلى أصل، وتخرج مقتنعًا إذا تليت في قراءة الأصول التي أوردها أن لا جامع يربط بين بعضها وبعض، وأن هذا الجامع - إن أدركه النظر الثاقب -ضعيف أوهن من خيوط العنكبوت. وهكذا نراه يوضح لنا رأي كل من ابن جني وابن فارس وهما من الاشتقاقيين ولكن كل منهما يرى رأيه. في حالتي البساطة والتركيب، ثم يذكر الأمثلة التي وردت عن المتكلفين في محاولة السير على ما سار عليه ابن جني ولكنهم يرددون الأمثلة في الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي وبرهن على وجود التكلف البين الواضحفي محاولتهم الربط بين هذه الأصول. ثم يأتي الاشتقاق الأكبر . سواء احتفظت بأصواتها نفسها أم استعاضت عن هذه الأصوات أو بعضها بحروف أخرى تقارب مخرجها الصوتي أو تتحد معها في جميع الصفات أو بعبارة أخرى هو الإبدال اللغوي، وهو جعل حرف بدل حرف آخر من الكلمة الواحدة وفي موضعه منها العلاقة بين الحرفين نحو هديل الحمام - وهديره، ومما جاء به من الأمثلة قوله سبحانه : ( أنا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَوْزُهُمْ أَنَّا). أي تزعجهم وتقلقهم فهذا في معنى تهزهم هذا والهمزة أخت الهاء فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين. ومنه القرمة وهي الفقرة تحز على أنف البعير وقريب منه قلمت أظفاري لأن هذا انتقاص للظفر، فقالوا : عصر الشيء، وذلك من (عصر) وهذا من (أزل) والعين أخت الهمزة، والراء أخت اللام. فالمعنيان متقاربان، وقالوا: الغدر كما قالوا : الختل، فذاك من غدر وهذا من ختل، وقالوا : زار كما قالوا : سعل لتقارب اللفظ والمعنى . إلخ . وانطلق القدماء يجمعون من ذلك ما يجدونه ويخبرون أن هذا من سنن العربية إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام ، ويقولون: مدحه ومدهه فرس رفل ورفن، وهو كثير مشهور قد ألف فيه العلماء، من هذا كتاب ابن السكنيت في القلب والإبدال وقد جمع فيه ثلاثمائة كلمة يقول عنها الدكتور صبحي الصالح : إن القليل منها يدخل تحت ما يسمونه الإبدال. ثم يورد رأي المحدثين في هذا الذي يسمى الاشتقاق الأكبر أن أكثر صور الإبدال ضرب من التطور الصوتي الذي يدخل أحيانًا في اختلاف اللهجات يقول الدكتور إبراهيم أنيس حين نستعرض تلك الكلمات التي فسرت على أنها إبدال حينا أو من تباين اللهجات حيناً آخر لا نشك لحظة في أنها جميعا نتيجة التطور الصوتي، أي أن الكلمة ذات المعنى الواحد حين تروى لها المعاجم صورتين أو نطقين، غير أنه في كل حالة يشترط أن نلحظ العلاقة الصوتية بين الحرفين المبدل والمبدل منه. ونرى أن هذا الرأي رأي مستحسن عند الدكتور صبحي الصالح وأن هناك من القدماء من كان يرد أكثر صور الإبدال إلى اختلاف اللهجات، ويأتي بالأمثلة المؤكدة على ذلك من القدماء أنفسهم نحو - حنك وحلك ، السفر والصقر والزقر . فاللغويون يرون الإبدال واقعا في جميع الحروف سواء تقاربت هذه الحروف أو لم تتقارب وليس هو كذلك عند النحاة إنما حروف الإبدال عندهم اثنا عشر حرفا، وأما حروف البدل فيجمعها قولهم: وقد لخص بعض العلماء المحدثين العلاقات التي تسوع الإبدال اللغوي بين الحروف على طريقة الاشتقاق الأكبر ، فرأها لا تخرج عما يلي: 1- التماثل : وهو أن يتحد الحرفان مخرجا وصفة، كالباءين، والتاءين والثاءين. 2- التجانس : وهو أن يتفق الحرفان مخرجا يختلفا صفة : كالدال والطاء. 3- التقارب. أ‌- أن يتقارب الحرفان مخرجا ويتحدا صفة : الحاء والهاء. ب‌- أن يتقارب الحرفان مخرجا وصفة كاللام والراء. د‌- أن يتقارب الحرفان صفة ويتباعدا مخرجا كالدال والسين. أ‌- أن يتباعد الحرفان مخرجا ويتحدا صفة كالنون والميم. ب‌- أن يتباعد الحرفان مخرجا وصفة كالميم والضاد. أما التجانس والتباعد فقليلان نادران وإن كانا يتفاوتان بين حرف وآخر. قويته وأغنته، وموت ذؤاف وذعاف هو الذي يعجل القتل وعاقبت القاف في قولهم: القوم زهاق مئة وزهاء مئة ، بضم الزاي وكسرها فيهما بمعنى واحد، - التجانس في الهمزة مع الهاء، فكان في هذا الإبدال تجانس كقولهم: هو يرمى من كتب، مروا يدبون دبيبا ويدحون دحيحا، والتاء أبدلوها دالا وطاء ، فتجانس المبدل والمبدل منه مثل : قرت الدم وقرد . والأكيات والأكياس وقالوا : محتد كل شيء ومحفده أصله، قالوا: التكلان والتراث والتخمة والتقوى ونترى، والتليد والتلاد، وأصلها من وكلت وورثت والوخامة والوقاية، المواترة والولادة . وعلى تقارب في الصفة وتباعد في المخرج بالكاف والميم وعلى تباعد مخرجا وصفة بالحاء. ومن التقارب بين الجيم والكاف ، جمل كمل ، وبين الجيم والميم جرن على الأمر جرنا ومرن عليه مرنا مرانة تعوده. وفي هذا إمكان وقوع التصحيف وامكان القول بالترادف والسين تجانست مع الزاي كما في المكان الشأس والشاز ومع الصاد في سحل وصهل. وتباعدت السين عن الثاء والشين مخرجا وإن قاربتها صفة في مثل قولهم: ساخت رجله في الأرض وثاخت، إذا دخلت والوطن والوطث الضرب الشديد بالخف. وحمس الشر وحمش إذا اشتد وستفت بده وشئفت إذا تشققت أصول أظفارها، وسعفت أيضا وفي هذا من التصحيف الواضح الظاهر . ولما فيها من المد واللين، ولكن هذا الإبدال لا يرضاه اللغويون شواهد على الاشتقاق الأكبر وإنما يرضاه الصرفيون ولم يروا بأسا في عد الإعلال تابعا للإبدال. وأخذ ينظر فيما سبق من أمثلة ويخرج منها ما لم يتقارب مخرجاه، وتصحيف النظر وهو من أخطاء النظر في الصحف وهو يقع في الأحرف المتشابهة رسما إذا لم تعجم كالباء مالتاء والثاء والنون والجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء والزاي والسين والشين، والصاد والضاد، والطاء والظاء، والذال والزاي والظاء والسين والصاد والقاف والكاف. لكن هذا الأمر بين واضح ظاهر للعيان أن الاتباع خلاف الاشتقاق وذلك أن الاتباع هو أن تتبع الكلة الكلمة على وزنها ورويها اتباعًا وتأكيدا وقيل عن حكمة هذا الاتباع هو شيء نند به كلامنا أي نثبته وتقويه. ولكن لما رأى البعض قرب الاتباع من الإبدال وهو أن بعض كلمات الاتباع فيها تغيير في حرف من كلمة عن أخرى وجدوا هذا الحرف من الحروف التي تقاربت مخارجها أرادوا إدخاله ضمنه وهذا خطأ منهم، لأن الكلمة الثانية تابعة للأول وهي في كثير غير ذات معنى إلا أن إفادتها تكمن مجيئها بعد الكلمة الأولى السابقة عنها وقد تأتي بحرف عطف أو بدون حرف عطف . ومن ذلك الاتباع: