2 تميز السهيلي الفكري داخل إطار المذهب الأشعري كان الإمام السهيلي من كبار أئمة المذهب الأشعري مجتهدا يوافق من سبقه عندما لا يكون في البحث ما يقتضي الخلاف ويخالف ويتميز برأه الخاص في المسائل العقائدية عندما لا يجد في أدلتها وحججها ما يكفي لدفع كل اعتراض ورفع الشبهة والالتباس . ولهذا كان كثيرا ما يختار الرأي المخالف والاجتهاد المتميز داخل نفس الإطار المذهبي وإن اقتضى ذلك الرد على كبار أئمة المذهب - الأشعري وبيان خطئهم في كثير من الآراء والمقالات رغم اعتقاده بأنهم " أرباب التحقيق والمؤيدون بالتسديد والتوفيق " يتجلى هذا من خلال بحثه المتعلق بالاسم والمسمى في باب الأسماء والصفات حيث اختار لنفسه رأيا خاصا تميز به عن غيره من محققي المذهب الأشعري ونظاره كأبي الحسن الأشعري والجويني والباقلاني وأبي بكر المرادي وغيرهم. وإن كان كبار محققي المذهب الأشعري وأئمته يروون عنه أكثر من هذا القول فالإمام الجويني يخبرنا أن شيخه " قسم أسماء الرب سبحانه وتعالى إلى ثلاثة أقسام، وقال من أسمائه ما نقول إنه هو وهو كل مادلت التسمية به على وجوده، ومن أسمائه ما نقول إنه غيره وهو كل ما دلت التسمية به على فعل كالخالق والرازق ، ومن أسمائه ما لا يقال إنه هو ولا يقال إنه غيره وهو كل مادلت التسمية به على صفة قديمة . " ثم أضاف الإمام الجويني كلاما بين به أن لهم في المذهب رأيا آخر غير ما سبقت الإشارة إليه وهو قوله: وذكر بعض أئمتنا أن كل إسم هو المسمى بعينه. والمرتضى عندنا طريقة شيخنا. 5/22 23:38] : وإذا كان هذا هو رأي هذين الشيخين وهما من كبار أئمة المذهب الأشعري رأيا آخر يعبر عنه بقوله: " والذي يذهب إليه أهل الحق أن الاسم هو المسمى نفسه . " ثم يسوق كلاما يشعر بأنه غير راض عن التقسيم الذي نسبه الجويني خالفه بل يرد على من من خصومه بقوله: وزعمت المعتزلة مع سائر من وافقها من أهل الأهواء والبدع أن الاسم غير المسمى. ومن المدرسة الأشعرية المغربية نجد مؤسسها - أبا بكر المرادي - في هذا المبحث يكتفي بالإشارة إلى ما يشبه التقسيم النظري الذي نسبه الإمام الجويني إلى أبي الحسن الأشعري مع إضافة يسيرة لا تغير شيئا في جوهر البحث. لكن الإمام السهيلي وهو واحد من أئمة هذه المدرسة - كما سبقت الإشارة يسلك في هذه المسألة - خلافا لشيوخه مسلكا أخر ويذهب إلى أن الاسم غير المسمى مؤكدا أن هذا القول لا ينافي أصول المذهب ولا يوافق قول المعتزلة ولا أصولهم الفكرية والعقائدية فيقول: "فقد تبين لك في أصل الوضع أن الاسم ليس هو المسمى وذلك أنك تقول : سميت هذا الشخص بهذا الاسم كما تقول حليته بهذه الحلية والحلية لا محالة غير المحلى فكذلك الاسم غير المسمى . " 5/22 23:38] : وقد مضت القرون الثلاثة فما تكلم بهذه السخافة سني ولا معتزلي ولا اعتقدوه . " هكذا يرى الإمام السهيلي أن هذه المقالة التي هي جزء من الفكر العقدي الأشعري بل بلغت من الشهرة فيه حدا صارت تعبيرا عن رأي أغلبية نظاره ومفكريه وهذا ما أشار إليه عبد القاهر البغدادي بقوله :" اختلفوا في الاسم فقال أكثر أصحابنا إنه المسمى . " مع كل ذلك يرى أنها ضعيفة - بل سخافة بعبارته - بدليل العقل الذي ساقه آنفا وبدليل الشرع الذي يقول فيه :" والرسول عليه السلام المنزل عليه هذا الكلام أعني (سبح اسم ربك الأعلى ( لم يقل قط سبحان اسم ربي وكان أشد الناس امتثالا لأوامر ربه ولا قال أيضا سجدت لاسم ربي ولكنه فهم عليه السلام أن المسبح هو الذي يعبر عنه عند التفاهم بهذه الكلمة وهي قولك الله والاسم الذي هو : ألف سين ، ميم، عبارة عن الكلمة المقولة باللسان المؤلفة من حروف ألف لام لام هاء وتلك الكلمة عبارة عن المعروف بالعقل سبحانه. " صحيح أن هذه الأدلة التي يقدمها لنا السهيلي مؤيدا بها رأيه تبدوا في ظاهرها متقنة ودقيقة ويصعب دفعها بمعارض في موضوعها إلا أن حرص السهيلي على ربط أفكاره - التي تميز بها عن غيره من شيوخ مذهبه - بأصول مذهبه الفكرية والعقائدية ورغبته الملحة في عدم تجاوز إطار مذهبه الفكري جعله يجد صعوبة كبيرة في ربط كل جديد فكري تميز به بأصول المذهب العقدي الأشعري . وحججه والمنطق السليم ومقتضى العقل أن نتيجة المقدمتين : ( الاسم غير المسمى وكل غير الله مخلوق ( أن يكون الاسم مخلوقا محدثا ، لكن السهيلي يرفض هذه النتيجة حتى لا يخالف أصول مذهبه التي آمن بصحتها فيقول :" ونحن إذا قلنا الاسم غير المسمى فليس يلزمنا من ذلك حدوث أسمائه تعالى وإن كان كل غير الله عز وجل مخلوقا محدثا ، لأنه عز وجل هو المسمّي نفسه بكلامه القديم الذي هو صفة ذاته لأن القرآن قديم لا محالة. " هكذا يربط السهيلي المسألة بالأصل المقرر في المذهب الأشعري وهو (قدم الكلام ويحرص على عدم مناقضة هذه الأصول حتى وإن اقتضى ذلك أن يضاف إلى المسألة التي باتت واضحة إشكالا آخر يزيدها غموضا فينتهي به البحث إلى نتيجة يلخصها بقوله :" فثبت انه لم يزل بجميع أسمائه كما اعتقدناه - انظر أثر الأصول العقائدية على تفكير الرجل ! - وثبت بما قدمناه من البرهان أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى وأنه غيره فرجع الحدوث إلى عبارات المخلوقين وألفاظهم دون كلام رب العالمين المتقدس عن الحرف والصوت الذي منه ينتظم اللفظ " وفي مبحث آخر مرتبط بالصفات الخبرية - بالمصطلح الكلامي - نجد عند السهيلي فهما يخالف فيه شيوخ مذهبه العقائدي ويتميز برأي خاص هو نتاج فكره الدقيق وتمار اجتهاده العميق، لكنه يحافظ على الأصول الفكرية والعقائدية المقررة في مذهبه ويتمسك بها مع حرص كبير على أن لا يتناقض شيء مما تميز به من أفكار مع تلك الأصول . في هذه المسألة العقائدية المعروفة عند المتكلمين بالصفات الخبرية يقصدون بها ما ورد به الخبر مما يوهم ظاهره تشبيها أو تجسيما - نجد السهيلي يؤكد على ثبات الأصل العقائدي عند الأشاعرة بعبارة :" وكل شيء يوهم الكفر والتجسيم فلا يضاف إلى الباري لا حقيقة ولا مجازا . ألا ترى كيف لم يضف سبحانه إلى نفسه ما هو في معنى عين الإنسان كالمقلة والحدقة لا حقيقة ولا مجازا. وكذلك لا يضاف إليه سبحانه شيء من آلات الإدراك كالأذن ونحوها لأنه في أصل الوضع عبارة عن الجارحة لا عن الصفة التي هي آلة لها . يستفاد من كلامه هذا أنه لا يخالف شيوخ مذهبه في أصل تميز به المذهب الأشعري عن كثير من المذاهب الأخرى، حيث تمحورت جهود كبار شيوخ هذا المذهب فيما يتعلق بأهم المسائل العقائدية على دفع شبه المجسمة عن طريق توجيه الأخبار التي تحمل إلى ذهن المتلقي شيئا من ذلك : تارة عن طريق بيان وجه التأويل فيها، وتارة أخرى من خلال ربطها بأصول الأدلة التي تنزه الباري سبحانه عن التجسيم ومشابهة المخلوقين. هذا الأصل ثابت عند الأشاعرة لكن تفصيل الكلام فيه من حيث تقريره والاحتجاج له تختلف فيه آراؤهم وتتعدد مقالاتهم والسهيلي في هذه المسألة لا يخالف في أصلها كما هو واضح من كلامه السابق ولكنه يتميز عن أئمة مذهبه برأي خاص فيما يتعلق بفروع المسالة لأنه وقف على الضعف الكامن في آراء من سبقه من حيث المنحى الاستدلالي ومن حيث النتيجة المترتبة عنه، ولذلك فهو يرى أن العين في أصل وضع اللغة صفة لا جارحة وأنها إذا أضيفت إلى الباري سبحانه فإنها حقيقة : فهي صفة لمن قامت به وليست جارحة وعندما تضاف إلى الخالق سبحانه في الأخبار الواردة في النص الديني تبقى على حقيقتها في الأصل اللغوي ولا تحتاج إلى تأويل يكشف اللبس عن ذهن المتلقي. وإنما المجاز في تسمية العضو بها وكل شيء يوهم التشبيه والتجسيم فلا يضاف إلى الباري حقيقة ولا مجازا . " والحقيقة أن هذه المطالب عالية لعلو المطلوب ومن ثم اقتضى الحال مثل هذا السمو في الفهم الذي يستنبط مثل هذه المعاني الدقيقة التي تعبر بذاتها عن سمو روحي يؤطر البحث العقائدي في مثل هذه المطالب ويعلو بها عن عبث الفكر التجسيمي الذي لا يقوى على مفارقة المحسوس والسمو بالفكر الإنساني لاستلهام معاني التنزيه ودفع شبه التجسيم . وليتأمل البصير مثل هذه العبارات التي جادت بها قريحة السهيلي في هذا المطلب : ( فهي صفة في معنى الرؤية والإدراك . وكذلك قوله : وكل شيء يوهم التجسيم فلا يضاف إلى الباري سبحانه . ) وما تشع به من معاني التنزيه التي تنير للسالك سبل البحث العقائدي وتوجهه نحو أرقى إبداعات أئمته وفرسانه ثم ذهب في معنى صفة اليد إلى فهم آخر تميز به كذلك عن غيره في مذهبه - وإن ظل قريبا من المعنى العام المقرر في المذهب وهو معنى القدرة - فرأى أنها صفة لموصوف وأن الله سبحانه مدح بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله تعالى أولي الأيدي والأبصار ولم يمدحهم بالجوارح لأن المدح لا يتعلق إلا بالصفات لا بالجوارح . " فكل شيء أحبه فقد أراده وليس كل شيء أراده أحبه ، وكذلك كل شيء حادث فهو واقع بالقدرة وليس كل واقع بالقدرة واقعا باليد فاليد أخص معنى من القدرة لذلك كان فيها تشريف لآدم عليه السلام . " تلك فهو إذن يعرف جيدا دقيق الأقوال الواردة في المسألة في مذهبه وكذلك مذاهب خصومه وهم المجسمة - في هذا المبحث العقائدي الخاص - لكنه يتميز عن متأخري المذهب الأشعري وهو واحد منهم برأي مخالف لهم موافق نسبيا لإمام المذهب كعادته عندما يرى في رأي من تقدمه مالا يطمئن إليه سواء من ناحية الفكرة أو من ناحية الدليل .