والتي كانت في وقتٍ من الأوقات تُمسك بزمام السلطة في جميع الميادين؛تبحث لنفسها عن مكان في عالم يسودُه العلم، ومنذ اللحظة التي بدأ فيها عدد محدودمن العلماء يَكتشفون حقائق جديدة عن الكون بأسلوب منطقي هادئ، وبناءً على شواهدقاطعة وبراهين مُقنعة لا سبيل إلى الشك فيها. منذ هذه اللحظة أصبحت سيادة العلم ولم يَعُد في وسع أية قوة أن تقف في وجه هذه الطريقة القاطعة ذلك لأن العلم ليس قوة معادية لأي شيء، والعالم شخص لا يُهدِّد أحدًا، ولا يسعى إلى السيطرة على أحد،حورب فيها العلم والعلماء كانت معارك أساء فيها الآخرون فهم العلم، وأعظم خطأ يَرتكبه المدافعون عن مبدأ معيَّن أو عنضرب من هو أن يَعتقدوا أن العلم مصدر خطر عليهم،مبدأهم أو نشاطهم الرُّوحيَّ في خصومة مع العلم. فقام رجالها يحاربون العلم الوليد ويَضطهدون رواده،إلا عن جهل بطبيعة العلم أو طبيعة الدين أو كليهما معًا،خوفًا على نفوذ أو دفاعًا عن مصالح يَعتقِدون أن أسلوب المعرفة الجديدة كفيل بتهديدها،فماذا كانت النتيجة آخر الأمر؟ ظل العلم يسير في طريقه بهدوء وثقة، وتَعاقَب ظهور العلماء الأفذاذ، الذين كان معظمهم أشخاصًا مخلصين في ولم يكن أحد منهم يتصوَّر أن الجهد الذي يبذله من أجل بسط سيطرةالعقل على الطبيعة وتحقيق النفع لإخوته في الإنسانية يمكن أن يُغضب أحدًا، واضطرَّت الكنيسة الأوروبية آخر الأمر إلى التراجُع أمام قوة الحقيقةالتي لا يستطيع أن يُنكرها عقل سليم، ولكن تراجُعها ربما كان قد أتى بعد فوات الأوان؛إذ إن الكثيرين يعزون موجات الإلحاد التي اجتاحت أوروبا — منذ القرن الثامن عشربوجه خاص— إلى تلك الخصومة التي لم يكن لها داع، وإنما هو في أساسه منهج أو أسلوب منظم لرؤية الأشياء وفهم وكل ما وُجِّه إلى العلم من اتهامات إنما هو في واقع الأمر راجع إلى تدخُّل قُوى تفسد تأثير العلم أو تُسيء توجيه نتائجه، فإن كل تقدُّم أحرزته البشرية في القرون الأخيرة إنما كانمرتبطًا — بطريق مباشرأو غير مباشر— بالعلم، وإذا كان من المُعترف به أن وجه الحياةعلى هذه الأرض قد تغيَّر — خلال الأعوام المائة الأخيرة — بأكثر مما تغيَّر خلال ألوف فإنَّ الفضل الأكبر في ذلك إنما يرجع إلى المعرفة العلمية،ذلك — إلى وجود شعوب تَعترف بأهمية هذا اللون من المعرفة وتُقدِّم إليه كل ضروبواليوم لا يملك أي شعب يريد أن يجد له مكانًا على خريطة العالم المعاصِر إلا أنيحترم أسلوب التفكير العلمي ويأخذ به، وكما قلت من قبل: فليسالتفكير العلمي هو حشدالمعلومات العلمية أو معرفة طرائق البحث في ميدان معيَّن من ميادين العلم،طريقة في النظر إلى الأمور تَعتمِد أساسًا على العقل والبرهان المُقنع — بالتجربة أو بالدليل— وهي طريقة يمكن أن تتوافَر لدى شخص لم يكتسب تدريبًا خاصٍّا في أي فرع بعينه كما يمكن أن يفتقر إليها أشخاص توافَرَ لهم من المعارف العلمية حظ واعترفبهم المجتمع بشهاداته الرسمية،منا قدصادفوا — على سبيل المثال — ذلك النمط من التجار الذين لم يكن لهم من الدراسة ولكنهم يُدبرون شئونهم في حياتهم العمَلية — وربما في حياتهمالخاصة أيضًا — على أساس نظرة عقلانية منطقية إلى العالم وإلى القوانين المتحكمة فيه،دون أن يكون لديهم أيُّ وعي بالأسس التي تقوم عليها نظرتهم هذه،لذلك فلقد رأيت بنفسيأشخاصًا يَعدُّهم المجتمع من العلماء — منهم مَنْ وصل في الجامعةإلى كرسي الأستاذية — يدافعون بشدة عن كرامات ينسبونها إلى أشخاصمعيَّنين (ليسوامن الأولياء ولا ممن عُرِفَتْ عنهم أية مكانة خاصة بين الصالحين)،بخوارق كاستشفاف أمور تَحدُث في بلد آخر دون أن يتحرَّكوا من موضعهم،أمنياتهم بصورة مادية مجسَّمة بمجرد أن تطرأ على أذهانهم هذه الأمنيات، عبور البحر سيرًا على الأقدام! تلك بالطبع حالات شاذَّة متطرفة،كاملة، ولكنها في تطرفها تساعد على إثبات ما نقوله من أن التفكير « فئة » عن وجهة نظرالعلميشيء وتكديس المعلومات العلميةشيء آخر.أما على مستوى المجتمعات البشرية، فقد أصبحَت النظرة العلميةضرورة لا غناء عنها وحسبُنا أن نشير12مقدمةفي بادئ الأمر ولكنها اضطرت إلى تطبيقه على نطاق واسع فيما بعد — هذا المبدأ إنماهو تطبيق مباشر لمفهوم التفكير العلمي المنهجي من أجل حلِّ مشكلات المجتمع البشري،ولقد أصبح من المألوف في عالمنا المعاصر أن نسمع تعبيرات كالتخطيط الاقتصادي أوالخطة الاقتصادية والتخطيط الاجتماعي والتخطيط التربوي والعلمي والتخطيط الثقافي، بعد أن كانت تُتْرَك لتنمو على نحو تلقائي، أو تخضع لتنظيمات مؤقتة وتَسري خلال وقت محدود فحسب. وكلنجاح يُحرزه التخطيط في عالَمنا المعاصر إنما هو نجاح للنظرة العلمية في تدبير شئون بل إنَّ العلم تغلغل بادئ الأمر في ميادين ظلَّ الناسطويلًا يتصوَّرون أنها بمنأى« علمية » عن التنظيم المنهجي والتخطيط المدروس؛ فنحن نسمع اليوم عن دعاية سياسيةقبول العقول لهذه المبادئ وإضعاف قدرتها على مقاومتها بالتدريج، ومنذ الوقت الذي« العلمية » الوزير النازي المشهور — عهد الدعاية — « جوبلز » افتتح فيهوتشكيل العقول.لها مدارس ومناهج منظمة، بعد أن كانت تعتمد على الاجتهاد الفردي،بأحدث الكشوف العلمية وبأكبر عدد من العلماء المتخصِّصين؛فعال.الإنسانية الشريفة، فإنه في ميادين أخرى يُسْتَخْدَم على نحو يُثري رُوح الإنسان أو يزيد من في ميدان الفنون أتيح للأجيال التي تعيش في القرن العشرينأن تتلقى دروسًا وتدريبات — في ميادين الإبداع أو الأداء الفني — لم تكن مُتاحة إلا على وكان من نتيجة ذلك اتساع ثقافة الفنان وإلمامه بأصولالإعجاز.الاجتهاد الشخصي، وتمكَّن الإنسان — بفضل التدريب المنهجي المدروس— من بلوغ نتائج13كانت تدخل من قبل في باب المستحيلات، وهكذا أصبحت حياة المجتمعات الحديثة — فيسياستها وحربها وسِلمها وجدِّها ولَهوها — منظمة تنظيمًا علميٍّا منضبطًا ودقيقًا، ولميعد في وسع مجتمع لديه أدنى قدر من الطموح أن يسير في أموره بالطريقة العفوية التيكانت سائدة في عصور ما قبل العلم. وإذا كنا — في الشرق بوجه خاص — نَسمع بينالحين والحين أصواتًا تحنُّ إلى العهد التلقائي في أي ميدان من الميادين، وإما مدفوعون بالكسل إلى وسواء أكان الأمر علىهذا النحو أو ذاك،والعشوائية قد ولى،الذي لا مفرَّ من توافُره في أي مجتمع يودُّ أن يكون له مكان في عالم القرن الحادي الذي أصبح أقرب إلينا مما نظن،الأخير من القرن العشرين غير مقتنعين حتى اليوم بجدوى الأسلوب العلمي في معالجة وإذا كانوا لا يزالون يَضعون العراقيل أمام التفكير العلمي حتى اليوم،لحظة في أحوال العالم في القرن القادم الذي سيَعيش فيه أبناؤهم، ومن هذه الزاوية فإني