يدين الطاغية بقطيعه لأغنامه ، ويبدو أنه وصي خائن قوي! طالما أنهم قاصرون ضعفاء ، فإنه يتصرف في أموال الأيتام ونفسه حسب رغباته. فإن هدف المستبد ليس إلهام أبناء الرعية من خلال المعرفة. ما دامت الرعية غبية ، تكافح في ظلام الجهل ، تتجول بشكل أعمى ، لن يكون هناك عبودية ، وصيدًا غريب الأطوار للمدنيين. كان الذئب يصطاد دواجن المدينة الكبيرة ليلًا ، خلق الله النور ككشاف في الأفق ، يولد الحرارة في روح الروح وفروسية الرأس ، ويطرد الظلام من طبيعة النور ، فهو تأملي في كل رؤيا متفوقة ومرؤوسة. إن تناقص المعرفة التابعة وزيادتها سيعززان ويضعفان كل سلطة الرئاسة. في حين أن معظم السخرية والابتذال يضيعان الوقت ، فاللسانيات لا تخشى قلة الحماسة لتعقيد اللواء وراء اللسان ، ولا سحر فسخ العقود العسكرية. ستلد والدته العديد من الأشخاص الذين يحبهم: كومايت وحسن أو مونتسكيو وشيلر. وبالمثل فإن هذا الطاغية لا يخاف من العلوم الدينية المتعلقة بحياته السابقة ، لأنه يعتقد أن الطاغية لن يخلق الغباء ولا يقضي على الفوضى ، فالطاغية آمن لأنه يعتقد أنه إذا كان مخمورا فسيكون مخمورا. فلن يستخدم الطاغية كوسيلة لدعم أوامره ومواكبة وسائله الغريبة في المقابلات التي يسخر منها. وأخذ قضمة على طاولة الاستبداد ، وأغلق فمه ولم يكن خائفا من العلوم الصناعية البحتة. اشتراها الطاغية بقليل من المال والكبرياء ، لأن معظمهم عانى من نكران الذات ترتعد فرائص المستبدُّ من علوم الحياة مثل الحكمة النظريّة، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وأخوف ما يخاف المستبدّ من أصحاب هذه العلوم، المندفعين منهم لتعليم النّاس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبَّر عنهم فـــــــــــــــــــــــــي القرآن بالصّالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: "أنّ الأرض يرثها عباديَ الصّالحون" (الأنبياء 105) وفي قوله: "وما كان ربُّك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون"(هود117)، وإنْ كان علماء الاستبداد يفسِّرون مادّة الصّلاح والإصلاح بكثرة التعبُّد كما حوّلوا معنى مادة الفساد والإفساد: من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدّين. والخلاصة: أنَّ المستبدّ يخاف من هؤلاء العاملين الرّاشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظاتٌ كثيرة كأنّها مكتبات مقفلة. كما يبغض المستبدُّ العلمَ لنتائجه؛ فلا بدَّ للمستبدِّ من أن يستحقر نفسه كلّما وقعت عينه على من هو أرقى منه علمًا. ولذلك لا يحبُّ المستبدُّ أن يرى وجه عالمٍ عاقل يفوق عليه فكراً، فإذا اضطرّ لمثل الطّبيب والمهندس يختار الغبيّ المتصاغر المتملِّق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله: "فاز المتملّقون"، وعليها مبنى ثنائهم على كلِّ من يكون مسكينًا خاملاً لا يُرجى لخيرٍ ولا لشرٍّ. وينتج مما تقدَّم أنَّ بين الاستبداد والعلم حربًا دائمةً وطرادًا مستمرًّا: يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبدُّ في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، كما أنَّهم هم الذين متى علموا قالوا، العوام هم قوّة المستبدِّ وقُوْتُهُ. ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا قتل منهم ولم يمثِّل يعتبرونه رحيمًا؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنّهم بُغاة. والحاصل أنَّ العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف، وأصبح النّاس لا ينقادون طبعًا لغير منافعهم، كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لا بدَّ للمستبدِّ من الاعتزال أو الاعتدال. وكم أجبرت الأمم بترقّيها المستبدَّ اللئيم على الترقّي معها والانقلاب – رغم طبعه – إلى وكيلٍ أمين يهاب الحساب، وأبٍ حليمٍ يتلذذ بالتحابب. وحينئذٍ تنال الأمّة حياةً رضيّة هنيّة، ويكون حظّ الرئيس من ذلك رأس الحظوظ، بعد أن كان في دور الاستبداد أشقى العباد؛ لأنّه على الدّوام ملحوظًا بالبغضاء، بل وعلى حياته طرفة عين؛ ولأنه لا يرى قطّ أمامه من يسترشده فيما يجهل؛ لأنَّ الواقف بين يديه مهما كان عاقلاً متينًا، فلا يهتدي على الصّواب، وإن اهتدى فلا يجسر على التّصريح به قبل استطلاع رأي المستبدّ، فإن رآه متصلِّبًا فيما يراه فلا يسعه إلا تأييده راشدًا كان أو غبيًّا، وكلُّ مستشار غيره يدَّعي أنَّه غير هيّاب فهو كذَّاب؛ والقول الحقُّ: إنَّ الصّدق لا يدخل قصور الملوك؛ لا يستفيد المستبدُّ قطُّ من رأي غيره، بل يعيش في ضلال وتردّدٍ وعذابٍ وخوف،