إن قرطبة التي فاقت كل حواضر أوربا مدنية أثناء القرن العاشر (الميلادي) كانت في الحقيقة محط إعجاب العالم ودهشته ، كمدينة فينيسيا في أعين دول البلقان، وكان السياح القادمون من الشمال يسمعون بما هو أشبه بالخشوع والرهبة عن تلك المدينة التي تحوي سبعين مكتبة، أو برشلونة إلى جراح، أو موسيقي فلا يتجهون بمطالبهم إلا إلى قرطبة ) . هذا هو وصف أحد الغربيين المدينة قرطبة الأندلسية في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي)، ومجدا - بزغ نجم مدينة قرطبة، بل وفي أذن كل أوربي آمن بالنهضة والحضارة الإنسانية لمحة جغرافية وتاريخية : وقد أرخت لها موسوعة المورد الحديثة فقالت: أسسها القرطاجيون فيما يعتقد، ومنذ ذلك العهد بدأت مدينة قرطبة تخط لنفسها خطاً جديدًا، فبدأ نجمها في الصعود كمدينة حضارية عالمية، لا سيما في عام (١٣٨ هـ = ٧٥٦م)، عندما أسس عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش) الدولة الأموية في الأندلس، وذلك بعدما سقطت في دمشق على أيدي العباسيين. بلغت قرطبة أوج ازدهارها، وقد جعل منها منبرا للعلوم والثقافة والمدنية، والقيروان والقاهرة في إفريقيا، وحفروا القنوات، فيها. بعض مظاهر الحضارة في قرطبة في السطور التالية تتَعَرَّفُ على بعض مظاهر الرقي والحضارة التي تميزت بها الأندلس عامة، ومدينة قرطبة خاصة لنقف على الإسهامات الإسلامية في مسيرة الإنسانية. والتي تقع على نهر الوادي الكبير، وأيضًا: (قنطرة الدهر)، وعرضها أربعين مترا، بين كل قوس والآخر اثنا عشر مترا، وسعة القوس الواحد اثنا عشر مترا، وكان عرضها حوالي سبعة أمتار، وارتفاعها عن سطح ماء النهر بلغ خمسة عشر مترا . إن هذه الأبعاد كانت لقنطرة بنيت في بداية القرن الثاني الهجري (۱۰۱ هـ)؛ أي منذ ألف وأربعمائة عام، أي في وقت لم يكن فيه الناس يعرفون من وسائل الانتقال إلا الخيل والبغال والحمير، مما يجعل هذه القنطرة بهذا الشكل واحدة من مفاخر الحضارة الإسلامية. يعتبر الجامع الكبير من أهم معالم قرطبة وآثارها الباقية إلى اليوم، وهي تحريف لكلمة (مسجد)، وقد كان أشهر مسجد بالأندلس على اعتبار أنه الآن كاتدرائية)، ومن أكبر المساجد في أوربا ! وقد بدأ بناءه عبد الرحمن الداخل سنة ( ١٧٠ هـ - ٧٨٦م)، ومن بعده ابنه هشام الأول، وفي وصف لهذا الجامع يقول صاحب الروض المعطار: وبها (بقرطبة) الجامع المشهور أمره الشائع ذكره، من أجل مساجد الدنيا كبر مساحة، تهمم به الخلفاء المروانيون، فزادوا فيه زيادة بعد زيادة وتتميها إثر تتميم؛ حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف، ويعجز عن حسنه الوصف، وأقلها تحمل اثني عشر مصباحا، ارتفاع الجائزة. والبياض، والزرقة، والخضرة، والتكحيل؛ فهي تروق العيون، وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها. وسعة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبرا، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وفيها من الفسيفساء المذهب والبلور ما بعث به صاحب القسطنطينية العظمي إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله . وعلى رأس المحراب خصة رخام قطعة واحدة مسبوكة منمقة بأبدع التنميق من الذهب واللأزوَرْدِ وسائر الألوان واستدارت على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريب، يقال: إنه صُنع في سبع سنين، وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطسوت. وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله؛ يتولى إخراجه قوم من قومة الجامع، وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش، وله كرسي يوم ي يُوضَعُ عليه، بين حائطي الجامع في ساباط ) متصل، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفص المتخذ من الأجر الأحمر المحكوك، وأنواع شتى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق. الجليلة الأعمال، الرائقة الشكل والمثال ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي )؛ منها ثمانون ذراعا إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعا، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين: أحدهما من الجانب الغربي، والثاني من الشرقي، وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهبا واثنتان من فضة وأوراق سَوْسَنِيَّة، ليأكل منها الجائعون والقادمون إلى المدينة من شتى البقاع ومما يحزن له القلب وتدمع له العين أن هذا المسجد العظيم المهيب قد تحول عقب سقوط الأندلس إلى كاتدرائية، وأصبح تابعا للكنيسة، وتحولت مئذنته الشاهقة إلى برج تنصب فوقه أجراس الكنيسة لإخفاء طابعها الإسلامي، جامعة قرطبة: ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوربية على مدى قرون، وكان طلاب العلم يفدون إليها من الشرق والغرب على السواء؛ وكذلك خُصِّصَتْ أموال للطلاب، ومكافآت ومعونات للمحتاجين؛ وعالم بالأدوية وتركيبها، والقاضي القرطبي النحوي، وأبو جعفر القرطبي، للحال التي رأينا، وكأنها مدينة عصرية، وانتشرت المكتبات الخاصة والعامة، وحتى غَدَتْ مركزاً ثقافيا ومجمعا علميا لكل العلوم وفي شتى المجالات، وجدير بالذكر أن هذه النهضة العلمية والحضارية في مدينة قرطبة في ذلك الوقت، وغيرها، وواكبتها - أيضًا - نهضة صناعية عظيمة؛ إذ تطورت فيها الصناعة كثيرًا، واشتهرت صناعات مثل : صناعة الجلود، وغيرها، وكذلك استخراج الذهب والفضة والنحاس ! فنراها مُقسمة إلى خمس مدن وكأنها خمسة أحياء كبرى، وكل مدينة مستقلة بنفسها، وكان لكل مدينة سوق خاص بها. ومن المقري نذكر بعض إحصائيات عن عمران قرطبة المساجد : انتهت مساجد قرطبة أيام عبد الرحمن الداخل إلى ٤٩٠ مسجدا، البيوت الشعبية: ۲۱۳۰۷۷ بيتا. بيوت النخبة ٦٠٣٠٠ بيت. الحوانيت المتاجر وما شابه . الحرامات العامة : ۹۰۰ حمام. غير أنها اختلافات على مدى الفخامة والجلالة والجمال، لا على أصل وجودها وتحققها. وكان عدد سكان قرطبة في عهد الدولة الإسلامية زهاء خمسمائة ألف نسمة ! والجدير بالذكر أن عدد سكان قرطبة حاليا يبلغ ٣١٠, ٠٠٠ نسمة تقريبا ! قرطبة في عيون العلماء والأدباء: وليس لها في المغرب شبية في كثرة الأهل وسعة الرقعة، ويقال: إنها كأحد جانبي بغداد، وإن لم تكن كذلك فهي قريبة وهي حصينة بسور من حجارة، والرصافة مساكن أعالي البلد مُتَّصِلة بأسافله من ربضِهَا ، وعليه الرصيف المعروف بالأسواق والبيوع، وتجارها مياسير لهم أموال كثيرة وأحوال واسعة، ولهم مراكب سنية وهمم علية . وأم مدائنها، وآثارهم بها ظاهرة، وهم أعلام البلاد وأعيان الناس، ومعدن الفضلاء، ومركز الراية، وقرارة أهل الفضل والتقى، ووطن أولي العلم والنهى، وينبوع متفجر العلوم، وقبة الإسلام، ودار صوب العقول، وبستان ثمرة الخواطر، ومن أفقها طلعت نجوم الأرض وأعلام العصر، وفرسان النظم والنثر؛ وصنفت التصنيفات الفائقة؛