غير أن الأعراس كانت مناسبات مهمة لسماع المغنين الجيدين وهم يتغنون بأغانيهم بمصاحبة العود والكمان ، والدربكة والدف ، لأن الأيام قد تمرّ ولا تسمع فيها أغنية جيدة إلا من دكاكين ورش الصدف ، حيث يعمل الصدافون الماهرون جالسين على الأرض ، ويغنون أغاني جماعية على إيقاع مناشيرهم ، ومطارقهم – ولكن بالطبع دون مصاحبة أية آلة . وأصحابها الآلاتية» لا يحظى الناس برؤيتهم وسماعهم إلا في الأفراح . وكلما مررت في طريقي إلى ملعب الدير بالعم حنا ذيبان الضرير ، كنت أتخيله يعزف على عوده ، وبعزفه وغنائه يملأ الطريق فرحاً حتى بلوغي بوابة الدير .في تلك الأثناء عاد المعلم جريس من بعد انتظار طويل من أبوي ، واستبشروا بعودته خيراً لأكثر من سبب : فهو معلم أولادهم المشهود له بمعرفة العربية والسريانية والإنكليزية ، وهو شماس كنيستهم المتميز بصوته الرحيم ، حتى أنه ليحول القداس صباح كل أحد إلى جنة صغيرة من عذوبة الترتيل .وقد حولوا الغرفة الفسيحة الواحدة ، فمنذ أواخر العهد العثماني كان رجال الطائفة قد اشتروا خرابة قديمة ، قرب سوق البلدية ، لعلها كانت في يوم من الأيام قصراً كبيراً لكثرة ما فيها من غرف غير أنها الآن مهدمة ، والغرف الأرضية منها اختنقت أبوابها ونوافذها بركام الحجارة الساقطةوإذا ما أزيحت الحجارة ، كانت روائح العفن والقدم ، في الظلمة التي لم تمسها الشمس سنيناً عديدة ،قبل دخول المدرسة ، وفي أيام العطل ، كنا نلعب في غرف هذه الخرابة - وتسمى «خربة الكنيسة» - بقدر ما نجرؤ على مجابهة العفن والظلام ، ونتخيلأنها ملأى بالمردة ،