بَلْ هَذا السّؤالُ شَغَلَني شَخْصيًّا! فَقَدْ طُرِحَ للمَرَّةِ الأولى عِنْدَما بَدَأَتِ الدَّوْلَةُ العَرَبيَّةُ الإِسْلاميَّةُ تَتَوَسَّعُ، وَاللُّغَةُ العَرَبيَّةُ تَنْتَشِرُ بَيْنَ أَقْوامٍ وَشُعوبٍ أُخْرى؛ فَقالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ تَحَدَّثَ اللُّغَةَ العَرَبيَّةَ هُمُ العَماليقُ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَقْوامِ العَرَبِ البائِدَةِ أَيِ العَرَبِ القُدَماء. وَكانَ العُلَماءُ وَالجُغْرافيّونَ العَرَبُ يَعْلَمونَ بِوُجودِ لُغاتٍ أُخْرى غَيْرِ اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ في اليَمَنِ وَشِبْهِ الجَزيرَةِ العَرَبيَّةِ، وَقالَ الجُغْرافيُّ اليَمَنيُّ الكَبيرُ "أَبو محمّد الهمدانيّ" إِنَّهُ كانَتْ في اليَمَنِ آنَذاكَ لُغَةٌ مَعْروفَةٌ بِاسْمِ اللُّغَةِ الحِمْيَريَّة. فَقَدْ وَضَعَ أَحْرُفَ اللُّغَةِ الحِمْيَريَّةِ في كِتابِهِ "الإكليل"، وَقامَ بِمُقارَنَةِ أَحْرُفِها بِأَحْرُفِ اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ فَوَجَدَ تَشابُهًا بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ وَقالَ إِنَّ في زَمَنِه، وَجَدوا أَنَّ "الهمدانيَّ" كانَ عالِمًا حَقًّا بِما فَعَلَهُ قَبْلَ أَلْفِ سَنَة! فَقَدْ أَصابَ في تَشْبيهِهِ للأَحْرُف، يَقولُ العُلَماءُ إِنَّ اللُّغاتِ اليَمَنيَّةَ تَطَوَّرَتْ بِشَكْلٍ مُسْتَقِلٍّ عَنِ اللُّغَةِ العَرَبيَّة. فَهيَ عِبارَةٌ عَنْ أَفْرُعَ مُتَعَدِّدَةٍ لِشَجَرَةٍ واحِدَةٍ مُثْمِرَةٍ وَجَميلَةٍ جِدًّا تَشَعَّبَتْ مِنْها اللُّغَةُ العَرَبيَّةُ وَاللُّغاتُ اليَمَنيَّةُ كُلٌّ عَلى حِدًى. وَبِالإِضافَةِ إِلى اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ في الجَنوب، كانَتْ في شَمالِ شِبْهِ الجَزيرَةِ العَرَبيَّةِ شَرْقِ المُتَوَسِّط لُغَةٌ عَظيمَةٌ هيَ اللُّغَةُ الآراميَّةُ الَّتي وَصَلَ أَثَرُها إِلى الهِنْدِ وَإيرانَ شَرْقًا وَشِبْهِ الجَزيرَةِ العَرَبيَّةِ جَنوبًا. كَيْفَ كَشَفَ نَقْشُ النَّمارَةِ أَسْرارَ تَطَوُّرِ اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ قَبْلَ الإِسْلام؟ وَلَكِنْ، فَقَدِ اكْتُشِفَتْ نُقوشٌ أُرْدُنيَّةٌ عَرَبيَّةٌ وَلَكِنَّها مَكْتوبَةٌ بِأَحْرُفٍ يونانيَّةٍ إِغْريقيَّة. فَبِسَبَبِ هَذا النَّقْشِ وَالأَحْرُفِ الَّتي كُتِبَتْ عَلَيْهِ، تَمَكَّنَ العُلَماءُ مِنْ أَنْ يَكْتَشِفوا أَنَّ اللُّغَةَ العَرَبيَّةَ وُجِدَتْ قَبْلَ الإِسْلامِ بِحَوالى مِئَتَيْنِ أَوْ ثَلاثِمِئَةِ سَنَة! وَهُنا بَدَأَ دَوْرُ عُلَماءِ اللِّسانيّاتِ بِإيجادِ السِّماتِ وَالبَصَماتِ الخاصَّةِ بِاللُّغَةِ العَرَبيَّةِ الَّتي نَعْرِفُها اليَوْمَ وَرَبْطِها بِاللُّغاتِ القَديمَةِ الَّتي نَتَكَلَّمُ عَنْها في هَذِهِ الحَلْقَة، وَمِنْها عَلى سَبيلِ المِثالِ تَنْوينُ النّون. فَنَحْنُ نَقومُ بِالتَّنْوينِ مُسْتَعْمِلينَ حَرْفَ النّونِ وَنَقولُ "جَهْبَذٌ". أَمّا هُمْ فَكانوا يُمَوِّمونَ بِاسْتِعْمالِ حَرْفِ الميمِ وَيَقولونَ "جَهْبَذُمْ". وَكَذَلِكَ الأَمْرُ بِاسْتِعْمالِ نونِ النِّسْوَةِ وَتَشْكيلَةٍ مِنَ الأَشْياءِ الظَّريفَةِ الَّتي تَجْمَعُ اللُّغَةَ العَرَبيَّةَ بِشَقيقاتِها، إِنَّ أَهَمَّ النُّقوشِ الَّتي اكْتُشِفَتْ حَتّى اليَوْمِ هيَ نُقوشُ حَرَّةِ بِلادِ الشّامِ المُتَواجِدَةُ بَيْنَ جَنوبِ شَرْقِ سوريا حَتّى شَمالِ السُّعوديَّةِ مُرورًا بِالأَراضي الشَّرْقيَّةِ للمَمْلَكَةِ الأُرْدُنيَّةِ الهاشِميَّةِ، وَالأَشْياءَ الَّتي كانوا يَخْشَوْنَها وَالَّتي كانوا يُحِبّونَها، حَبيب، سالِم". بِالإِضافَةِ إِلى هَذا، كانَ الصَّفائيّونَ يُطْلِقونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ اسْمَ العَرَب. وَيَقولُ الباحِثُ إِنَّ هَذا النَّقْشَ كُتِبَ خِلالَ سَنَةِ "ظَمَأ" مَرَّتْ عَلى العَرَبِ، أَيْ أَنَّ صاحِبَ النَّقْشِ يَعْتَبِرُ أَنَّهُ وَقَوْمُهُ مِنَ العَرَب. وَبِالإِضافَةِ إِلى الصَّفائيَّة، وَقَدْ وُجِدَ نَصٌّ مِنْ هَذا النَّوْعِ في "وادي السّرحان" عِنْدَ الحُدودِ الأُرْدُنيَّةِ السُّعوديَّةِ، وَكانَ مُكْتَشِفَهُ وَموَثِّقَ هَذا النَّقْشِ فَريقٌ أُرْدُنيٌّ للباحِثِ "هاني هياجنة"، وَنُشِرَ في مَجَلّاتٍ عِلْميَّة. وَلَكِنْ كانَ بِإِمْكانِنا أَنْ نَفْهَمَهُ بَعْضَ الشَّيْءِ وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ مَكْتوبٌ بِاللُّغَةِ العَرَبيَّة. لِذا عَلَيْنا الِانْتِظارُ قَليلًا لأَنَّ المَوْضوعَ صَعْبٌ، فَلا يُمْكِنُنا إِعْطاءُ جَوابٍ شافٍ وَنِهائيّ. فَلا بُدَّ أَنَّهُ في هَذِهِ اللَّحْظَةِ الَّتي نَتَكَلَّمُ فيها قَدْ تَوَصَّلَ العُلَماءُ إِلى بَحْثٍ جَديد. فَهوَ مَوْضوعٌ واسِعٌ وَغَزير. وَمَعَ كُلِّ الدِّراساتِ وَالأَبْحاثِ وَالجُهودِ الَّتي نَبْذُلُها نَحْنُ كَعُلَماءَ وَمَعَ كُلِّ تَعَبِنا وَسَهَرِ لَيالينا،