لذلك رأوا أن هذه الدرجة المتوسطة في حالات النكاح تشبه الدرجة المتوسطة بين الصحة والبطلان في العقود المالية، من حيث كونها درجة ثالثة إلى ثبوت الآثار عند تنفيذ العقد، استفادة من هذا الاصطلاح القائم في المعاملات المالية، بل هناك مفارقات بين الفاسد من الأنكحة والفاسد من المعاملات المالية من النقاط التالية: أن الفاسد من الأنكحة غير منعقد. أما الفاسد من المعاملات المالية فمنعقد. أن نتيجة الانعقاد في الفاسد من العقود المالية كونه يترتب عليه عند التنفيذ (التسليم والتسلم) جميع الآثار المقررة له في حال الصحة، وكل ذلك يعتبر أثرا للعقد مستندا إليه لا إلى التنفيذ وإن كانت هذه الآثار يتأخر ثبوتها فيه إلى ما بعد التنفيذ، فلا يستعجل في إثبات آثاره منذ العقد كما في العقد الصحيح، وذلك خير من تعريض هذه الآثار للنقض بعد الثبوت إذا فسخ العقد قبل التنفيذ. أما الفاسد من الأنكحة فلا تترتب عليه بالتنفيذ الدخول جميع آثار النكاح الصحيح من ملك المتعة والنفقة الزوجية والمتابعة والطاعة والتوارث وإنما يترتب عليه بالتنفيذ وبصورة استثنائية بعض الآثار التي هي من لوازم نفي عقوبة الحد الشرعي وتعتبر من صميم النظام العام في نظر الإسلام، وهذه الآثار تثبت في كل وطء بشبهة ولو دون عقد، ولذا تعتبر في الحقيقة هذه الآثار عند ثبوتها آثارا لتنفيذ النكاح الفاسد، أي أنها تثبت آثارا للدخول المبني على عقد النكاح الفاسد باعتبار أنه دخول بشبهة وهذه الشبهة نشأت من وجود العقد الفاسد. ولذا انحصرت هذه الآثار في الأمور التي تثبت بالدخول بشبهة دون عقد. إن الفاسد من عقود المعاملات المالية عند الحنفية يمتنع فسخه فيستقر ويصبح كالصحيح إذا أعقبه عقد رتب حقوقا للغير لشخص ثالث كما تقدم بيانه بخلاف الفاسد من الأنكحة فإنه لا يستقر بحال من الأحوال، بل يفرق القاضي بين الرجل والمرأة فيه متى علم باجتماعهما، كما يحول بين كل متخادنين، ويعاقبهما عقوبة التعزير لسقوط الحد بشبهة العقد. وهذا أيضا نتيجة لكون العقد الفاسد في المعاملات منعقدا، وإنما هو صورة عقد صلحت لأن تعتبر شبهة تسقط عقوبة الحد عن حادثة الدخول غير المشروع بالمرأة، أي أن عقد الزواج الفاسد هو عقد باطل مقترن بشبهة. أن الباطل والفاسد من الأنكحة في نظر فقهاء الحنفية أنفسهم لا فرق بينهما من حيث الانعقاد وعدمه، ففي الحالات التي ترافقها تلك الشبهة يسمى النكاح غير المنعقد فاسدا، وفي الحالات التي تتجرد عن الشبهة يمسى باطلا. والنتيجة في الحالة الأولى الفاسد أن يعتبر الدخول الذي يعقبه دخولا بشبهة من نوع شبهة العقد، فتثبت فيه الآثار التي تثبت في كل وطء بشبهة، وهي: المهر والنسب والعدة وليست هذه التسمية للدلالة على الانعقاد وعدمه كما في المعاملات المالية المستعار منها لفظ الفاسد. هذا هو التحقيق الصحيح في التمييز بين فاسد النكاح وباطله عند الحنفية الذين ميزوا بينهما، ومفاد ذلك أن النكاح الفاسد هو من حيث الانعقاد كالباطل غير منعقد لأن صاحب الهداية يصرح بأن النكاح بغير شهود ليس بمنعقد، وشارح الهداية صاحب الفتح وابن عابدين يصرحان بأن النكاح بغير شهود هو من نوع الفاسد فالنتيجة أن الفاسد غير منعقد. فما كان مختلفا في حرمته فهو فاسد في نظر الحنفية الذين يقولون بالحرمة. وما كان متفقا على حرمته فهو باطل. وقد أورد ابن عابدين على هذا الضابط في التمييز بين الفاسد والباطل من الأنكحة ما يخدشه, والواقع أن الاختلاف في الحرمة هو أحد الأسباب في التمييز بين الفاسد والباطل وليس هو كل شيء هذا التمييز عند الحنفية. ومفاد ذلك ان نقطة الارتكاز في الفرق بين الفاسد والباطل من الأنكحة هي أن الفاسد يعتبر فيه شبهة وتترتب على الدخول فيه أحكام الوطء بشبهة. أما من حيث الانعقاد فلا فرق بينهما في عدم الانعقاد، لأن تلك الأحكام الاستثنائية التي تترتب على الوطء بشبهة (وهي المهر والعدة والنسب) لا تستلزم الانعقاد ولا تتوقف عليه ما دامت تثبت في كل وطء بشبهة ولو دون عقد أصلا. ولكن بعضا من الأساتذة المعاصرين يتراءى من كتاباتهم أنهم يظنون الفاسد من الأنكحة منعقدا، قياسا على الفاسد من البيوع. وقد ساعد على الوقوع في هذا الخطأ تصريح فقهاء الحنفية بأن النكاح الفاسد يفسخه كل من الطرفين كما يفسخه أيضا القاضي حسبة أن لم يفسخه أحدهما. فغير المنعقد باطل والباطل لا يفسخ فسخا لأنه كالمعدوم. ومفاده أن فسخ النكاح من قبل الطرفين أو أحدهما هو المراد بالتفريق أو المتاركة اللذين يعبر بهما الفقهاء أيضا في هذا المقام ويقولون أن العدة في النكاح الفاسد تبدأ منذ التفرق أو المتاركة. ففسخ القاضي معناه التفريق الاجباري بينهما بأمر القاضي إن لم يتفرقا من تلقاء أنفسهما فهو بمعنى الحيلولة المادية لمنع استمرار الاجتماع غير المشروع، وليس بمعنى حل العقد المنعقد، ولذا اعتبروا هذا التفريق بينهما، واجبا دينيا حسبيا على القاضي لأنه إزالة لمعصية الاجتماع غير المشروع بناء على كل ما تقدم بيانه يجب أن يلحظ عند تقنين أحكام النكاح ما يلي: 1- أن النكاح الفاسد والنكاح الباطل هما سوءا في عدم الانعقاد، 2- أن نقطة الارتكاز في الفرق بين الفاسد والباطل من الأنكحة هي الشبهة، 3- إن وجود الشبهة النافية للحد في النكاح الفاسد هو الذي يجعل الدخول فيه من قبيل الدخول بشبهة، ونسب الولد) رغم أنه باطل من حيث الانعقاد، ومن المألوف في النظرين الشرعي والقانوني أن يترتب على العقد الباطل، بعض أحكام العقد الصحيح استثناء من القواعد. 4- إن استعمال لفظ (الفساد والفاسد) في باب النكاح بغير معناه الاصطلاحي المعروف في باب المعاملات المالية، وذلك للدلالة فقط على ثبوت بعض الأحكام الاستثنائية لبعض حالات بطلان النكاح، قد أدى إلى اضطراب كثير في تحديد طبيعة النكاح الفاسد وتحقيق معناه المقصود، ولا سيما مع وجود عبارات للفقهاء ذات دلالات متنافية إن لم تحمل كل منها على جهة، وقولهم: "إن الفاسد يثبت فيه النسب والعدة والمهر دون الباطل" وقولهم: "إن الفاسد يفسخه القاضي وجوبا" مما سبق بيانه وإيضاح معانيه المقصودة. وهذا الاضطراب ناشيء من أن التعبير بفساد النكاح عند فقهاء الحنفية له معنى غير معناه لديهم في المعاملات المالية، وأن للفقهاء الأوائل الذين استخدموا لفظ الفساد في النكاح للدلالة على تلك الحالات الخاصة من البطلان وتمييزها بأحكام استثنائية لم يوضحوا المراد بهذا اللفظ في باب النكاح منذ بداية استعماله، فلجميع هذه الملاحظات ينبغي الخروج من هذا الاضطراب الذي جعل من موضوع فاسد النكاح وباطله مشكلة عويصة في الدراسة والتشريع والتطبيق، وذلك بأن يقسم النكاح من حيث الصحة وعدمها إلى نوعين: صحيح وباطل فقط، باعتبار أن الفاسد غير منعقد، وأن تسميته في الأصل بالفاسد إنما هي لتمييزه ببعض الآثار فقط لا بالانعقاد. ثم يقسم الزواج الصحيح إلى نافذ وغير نافذ، كما يقسم النافذ إلى لازم وغير لازم، وتحدد مفاهيم النفاذ واللزوم وعدمهما وآثارهما وفقا لترتيبها ولمعانيها المقررة لها في العقود المالية عند الحنفية، لعدم وجود فارق بين تلك المفاهيم والآثار في العقود المالية عنها في عقد الزواج. هذا، وقد ثبت بما أوضحناه أن وجود الشبهة هو العامل الوحيد في تمييز الفاسد عن الباطل من الأنكحة عند الحنفية كما سبق بيانه، بدليل أن جمهرة المذاهب الاجتهادية التي لا تقول بفرق بين الفساد والبطلان لا في النكاح ولا في المعاملات المالية تقرر، نفي عقوبة الحد، وكما لو زوجت المرأة نفسها دون ولي عند الشافعية والحنابلة. وبناء على كل ما تقدم ينبغي في تأصيل هذا الموضوع (أي بطلان النكاح وفساده) أن يستبعد منه لفظ الفساد لأنه هو مبعث المشكلة، ب- وباطل غير مشتبه، وهو الذي يعتبر في حكم الزنا المحض، (وهذا الذي كان يسمى سابقا بالباطل). ومزية هذا التقسيم وهذه التسمية أنه يدل على عدم الانعقاد في كل من النوعين المشتبه وغير المشتبه بمقتضى أن كلا منهما باطل، بخلاف لفظ الفاسد، لذلك ينبغي توسيع دائرة البطلان في تقنين أحكام النكاح حتى تشمل المحارم اللاتي تعتبر حرمتهن لا شبهة فيها لأحد يعيش في وسط اسلامي وهذا لا يمنع ثبوت نسب الولد من الرجل إذا ادعاه الرجل بصورة مطلقة دون أن يضيفه إلى هذا النكاح الباطل، ويؤخذ برأي أبي حنيفة فيما سوى هؤلاء المحارم من درجات القرابة،