إن كل ما يدركه الذهن في ذاته أو كل ما يعتبر موضوع الإدراك المباشر، وموضوع التفكر أو موضوع العقل، ولكن من أين تأتي الأفكار؟ إنها تأتي حصرا من التجربة. لقد رفض لوك رفضا عنيفا الأفكار الفطرية التي تكون في الإنسان سابقة عن التجربة ( ما يعرف بالأفكار الفطرية كما عند ديكارت وعند اصحاب المذهب الفطري عموما) . لذلك سلم لوك بعجز العقل البشري وقصوره عن معالجة ما يتجاوز حدوده. ويقول " لا ينبغي أن تعدو حدود ما تستطيعه ملكاتنا". وهذا ما سنحاول معرفته في العنصر الآتي رفض لوك للأفكار القطرية بنوع من الشرح والتحليل:1. رفض لوك للأفكار الفطرية وبناء النظرية: يعالج لوك في الجزء الأول من مؤلفه "مقال في الفهم الإنساني" نظرية الأفكار والمبادئ الفطرية (النظرية والعملية) فيرفضها بشدة مؤكدا على أولوية المعرفة الحسية التجريبية، ومعنى الأفكار الفطرية في تاريخ الفكر الفلسفي: هي تلك التي يولد الإنسان مزودا بها، ولسنا في حاجة إلى تحصيلها. إذا كان هجوم لوك على الأفكار الفطرية يمثل الجانب السلبي لنظريته في المعرفة، وقد بدأ الجانب الإيجابي لبناء نظرية معرفية بقوله "إننا على وعي وشعور بأننا حاصلون في عقولنا على أفكار مثل البياض والصلابة وحلاوة الطعم والحركة والإنسان والفيل ونحو ذلك ونحن". وسوف نعرض لرفض لوك وهجومه على مبدأ الأفكار الفطرية الذي عرض تفاصيله بإثارة وإحكام في الكتاب الأول من " المقال في الفهم الإنساني" حيث يتعرض لنقد الأفكار الفطرية، ثم يعرض الحجج دعاتها ويحاول الرد عليهما ودحضها.أولا حجة الإجماع: يعرض لوك لهذه الحجة ثم يرد عليها، وينقدها، وترمي هذه الحجة إلى أنه ليس هناك شيء مسلم به أكثر من القول بوجود مبادئ معينة - نظرية وعملية يتفق عليها جميع الناس، ويتصورونها مستمرة وأبدية حملتها أرواحهم عندما أتت إلى العالم لذلك يجمع كثيرون من الناس على المبادئ والأفكار ويتفقوا فيما بينهم عليها . لكن لوك يرفض هذه الحجة وينقدها بدعوى أن مسألة إجماع الناس على مبادئ أو أفكار معينة أو اتفاقهم جميعا على بعضمنها لا يعني أنها فطرية أو أنهم ولدوا وقد حملتها أرواحهم وأتت بها من عالم إلى عالمنا. إن القول بالفكرة المفطورة أو المطبوعة في العقل ثم القول بعد إدراك العقل لها إنها تعني تناقضا صحيحا وخللا في نظرية دعاة الأفكار الفطرية.ثانيا: حجة استخدام العقل: ترمي هذه الحجة إلى أن الناس تعرف مجموعة من المبادئ والأسس الفطرية وتوافق عليها إذا ما بدأوا في استخدام عقولهم. ويفهم من هذه الحجة وجود الأفكار الفطرية بالقوة في العقول وأنها لا تظهر بالفعل إلا عندما يبدأون في استخدام عقولهم فتخرج هذه الأفكار من حالة الكمون (القوة) إلى حالة الفعل. ويرى لوك أن هذه الحجة تعني أمرين لا ثالث لهما:_الأمر الأول: هو أن ظهور الأفكار والمبادئ الفطرية موقوف على استخدام الإنسان لعقله فيدرك هذه المبادئ الأولى. لكن لوك يرفض هذين الاحتمالين مبررا رفضه بفرض أن الإنسان لو استطاع أن يكشف بعض القوانين الضرورية الأولية باستخدام عقله. ثم قام بعد ذلك باستنتاج بعض النظريات الملحقة بهذه القوانين، فإنه لن يكون ثمة فرق بين القوانين والمبادئ الفطرية وبين استنتاجاتها التالية من حيث أن الأولى والثانية قد نتجت عن طريق اكتشاف العقل وحسن استخدامه لوظيفته وهذا من دواعي الخطأ.بهذه الكيفية ينفي لوك الأفكار الفطرية، كما ينفي مسألة استخدام العقل لاكتشاف الحقائق ويؤكد على وظيفة العقل تلك العملية الإيجابية - الباطنية التي ترتكز عليها سائر الانطباعات الحسية والمدركة التي يحصلها الإنسان عن طريق الخبرة الحسية ويقصد بها لوك الحدس أو التأمل الباطني. نستنتج أن بحث لوك انصب على "العقل البشري" من حيث هو أداة لاكتساب المعرفة ورأى أنه قبل أن نبحث في المسائل العلمية ينبغي أن تتفحص قوانا الخاصة؛ وهنا دعوة إلى طرح تساؤل جديد؟ ولكن كيف؟ ذلك من خلال تبيان الموضوعات التي تستطيع عقولنا تناولها هذا يعني انه فيه موضوعات تستطيع العقول تناولها وموضوعات لا تستطيع عقولنا تناولها. وهدف لوك من طرح هذا السؤال هو "الدعوة إلى أن تتفحص قوانا الخاصة الموجودة في العقل البشري من أجل اكتساب المعرفة"؛ والهدف من ذلك هو هدف معرفي في فلسفة لوك يتمثل في تهيئة السبيل لاكتشاف المعرفة فحسب. فلم يكن هدف لوك الرئيسي هو اكتساب الحقائق من العالم وإنما تهيئة السبيل (طريق) لاكتشاف المعرفة وحسب. لكن السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هو كيف يتم ذلك؟ يتم ذلك بإزالة العوائق التي تقف في طريق العقل البشري والمتمثلة في عوائق لغوية والتي تنشأ من استخدام الفاظ غامضة وهيمة تؤدي إلى ارتباك العقل وتضليليه وعوائق منهجية يقوم بالاعتقاد بأن في العقل قواعد فطرية يمكن ان يستخلص منها المعرفة كلها. وهدفه من هذه العوائق أو بعبارة أخرى يقترح علينا إزاء هذه العوائق في كتابه مقالة في الفهم البشري. وهذا لكي تنظم لنا حياتنا وأبحاثنا على نحو يتفق مع ما لدينا من إمكانيات في البحث عن أشياء تستعصي على عقولنا تناولها أو معرفتها.-1- البحث في أصل المعرفة و قبليتها وحدودها.-2- البحث في أسس المعرفة.-3-البحث في درجات المعرفة. وطرح لوك لمسألة المعرفة البشرية والبحث في أصلها واسسها ودرجاتها، هو طرح سؤال جديد، وهذا له دور هام في المعرفة العلمية خاصة والمعرفة بصفة عامة لكن لماذا هذه الأهداف الثلاثة؟ فيجب لوك قائلا:أولا لأنه إذا اكتشفنا أصل المعرفة البشرية استطعنا أن نبين بطلان نظرية الأفكار الفطرية في أصل المعرفة. وثانيا حين نبحث في أسس المعرفة اليقينية فإننا نستطيع أن ندرك أن القياس المنطقي ليس الطريقة الوحيدة الصحيحة للوصول إلى اليقين وثالثا إذا عرفنا حدود ودرجات المعرفة استطعنا أن نتجنب بحث المسائل التي تقع خارج تناول عقولنا.وتمثل هذه الأهداف دعوة إلى إقامة السؤال الذي يقوم على مناقشات التطور الابستيمولوجي لنظرية العقل عن طريق نقد وتحليل الأسس والمبادئ والنظريات والفروض والمناهج التي تقوم عليها العلوم أو المعارف بصفة عامة.وهذا ما قام به لوك من خلال: