وبالفعل يتبين لنا من دراسة تطور العلم أنه كلما انتقل إلى مرحلة أدق، أي على الكلام عن الظواهر الطبيعية من خلال صفاتها التي تبدو للحواس المعتادة، وخلال ذلك كله لم يكن هناك علم طبيعي بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة . فيمكن القول أن النزاع لم يبت فيه بعد بين أنصار التعبير الكيفي والتعبير الكمي عن الظواهر البشرية. ومن ثم فان أساليب التعبير عن الثانية لا تصلح للأولى، على حين أننا إذا أردنا أن ننتقل إلى المرحلة العلمية في دراسة الإنسان فلا بد أن نتبع نفس الأساليب التي اتبعت بنجاح في بقية العلوم، وسرعان ما يصبح من الضروري أن نعوده كيف يتعامل مع الرقم ثلاثة» ناسيا أنه يعبر عن ثلاث بليات أو ثلاث برتقالات. وتلك التجريدات العقلية التي نفهم من خلالها الظواهر الطبيعية، على حين يزداد العلم إيغالا في عالم الرموز والتجريدات الذي خلقه بنفسه، ويصبح القدر الأكبر من التعامل الذي يقوم به العالم، هو تعامله مع تلك الكيانات الفعلية التي استحدثها لكي يفهم بواسطتها الظواهر . ومن هنا كان ذلك الاتهام الذي وجهه البعض إلى العلم بأنه يفصلنا عن منابع الحياة العينية الملموسة، ويقيم عالما مصطنعا أشبه بالهيكل العظمي الذي خلا من اللحم والدم والحيوية، ولكن الأمر الذي نود أن نوجه إليه نظر القارئ هو أن تطور العلم نحو التجريد كان أمرا تحتمه مصلحة العلم ذاته، إذ أن الفرق هائل من حيث الدقة، وفضلا عن ذلك فإن هذا التحديد الكمي يسمح بالمقارنة بين الظواهر إذ تتحول الألوان مثلا من صفات كيفية إلى أرقام تعبر عن موجات ضوئية معينة، أن هذه الصفة، وتتيح له فهما أفضل لقوانينه فالعلم المعاصر الذي تبدو كتبه وأبحاثه كما لو كانت تعيش متقوقعة في عالمها الخاص المليء بالرموز والمعادلات والأشكال الهندسية هذا العلم هو الذي يتمكن عن طريق هذه الرموز المجردة ذاتها، من أن يقدم إلينا في كل يوم كشفا واختراعا جديدا يجعلنا نسيطر على نحو أفضل على ظروف معيشتنا ويرفع مستوى حياتنا اليومية ذاتها بلا انقطاع.