وهو يقول أصابني العمى حين أحببت. وها هو يجلس كل يوم في حجرته ليكتب مجددًا: ثمانية وعشرون عا ًما. خريج كلية تجارة القاهرة منذ ستة أعوام. بلدي ُيسّمى "البهو فريك" تابع لمحافظة الدقهلية. ثم نظر إلى الحائط. وقام بتعليق الورقة بجوار سبعة ورقات أخريات، بدت أنها ُعّلقت في أوقات سابقة. الورقة الأولى مكتوب بها اسمه وسنه وبلده وبها:" رفض زواجي بحبيبتي اليوم". وبجوارها ورقة ثانية بها:"ُرفضت للمرة الثانية". وهكذا حتى الورقة السابعة. بعدها أسند ظهره للخلف ونظر للأعلى، وعادت به ذكرياته إلى ما قبل ستة أعوام مضت حين كان يدرس بالسنة الأخيرة بالجامعة. صدفة، في طريقهما من البلدة إلى جامعته بالقاهرة. ومن يومها وقد سواء بقصد أو دون قصد. حتى أفاق من ذكرياته وزفر زفرة قوية حين نظر إلى ورقة كبيرة علقها على الحائط أسفل الثماني ورقات وقد كتب عليها:"ُرفضت لنفس السبب. والد منى المجنون". كان خالد إن سمع كلمة مجنون فدائما يتذكر والد منى. ولا أعتقد أنه خالد فقط بل جميع أهل البلدة. ولكن خالد أكثر من عرف ذلك المجنون ؛ فمنذ أن أنهى دراسته وعزم على أن يتقدم للزواج من منى حتى فوجئ بأبيها - في أول زيارة لخطبتها- ينظر إليه بغرابة ويسأله: -أيوة فسأله مجددا : - وانت عملت إيه في حياتك؟! حتى رد: - عملت إيه في حياتي؟!. أنا خريج كلية تجارة جامعة القاهرة. وحضرتك عارف إن والدي توفاهما الله وأنا صغير وعايش مع جدي. ومعفي من جيش. - وتفرق إيه عن غيرك عشان أجوزك بنتي؟!!. ثم أنهى المقابلة بالرفض. اعتقد خالد وقتها أن سبب رفضه للمرة الأولى أنه لم يجد الوظيفة المناسبة، ماذا فعلت في حياتك. وفيم تختلف عن غيرك. له. شايف إن ده سبب يخليك تذّلنا؟!. طب انت عايز لبنتك بطل. قولي أبقى بطل ازاي. عينيه: غصب عنك هتجّوزها. البلدة كّلها تعرف غرابة أطوار هذا الرجل. لا أحد يعلم. الكل يعلم أن مصير ابنته العنوسة لا غير. طالما أبوها ذلك الرجل. ومع هذا لم يطرق الاستسلام قلب خالد، ولم يعد بباله سوى هذاالشيء الذي يجعله فريدا من نوعه، ويجعله يستحق منى كما يريد أبوها. لايعلم، فلم يجد سوى أن يتوجه بالدعاء إلى الله أن يأخذ أباها. إلا أن حبه لمنى ورفض أبيها الدائم له، جعل الحزن وشاحا دائماً على وجهه. حتى لاحظ جده - والذي كان يقترب من عامه الثمانين، وكانا يعيشان سويا منذ وفاة والدي خالد -حزنه الشديد بعد رفضه تلك المرة، واقترب منه وسأله : - انت لسه زعلان؟. رد خالد: مش متخيل إني أشوفها لحد غيري. مش عارف إن زمن المعجزات انتهى. - طب هعمل إيه؟ وكأنه تذكر شيئا ما: - السرداب. وأكمل: - جدي. انت فاكر لما كنت صغير، وكنت لما أعيط تحكيلي عن قصة السرداب الموجود تحت بلدنا. وإنك نزلته من أكتر من خمسين سنة؟ - أيوة طبعًا فاكر لما كنت بتعيط. تحب أفكرك بأيامك. - لا. تحكيلي عن السرداب. فصمت جده متذكرا : - يااه. دي أيام فاتت من زمن. كنا أربع شبان بنحب الشقاوة. وسمعنا كلام كتير عن كنز موجود في سرداب بيعدي تحت بلدنا. وإن اللي هينزله مش هيخرج منه. وقلنا لازم ننزل. - كنا عارفين إن باب السرداب موجود في بيت مهجور في البلد. وفي ليلة توكلنا على الله. ورحنا للبيت ده في السر، وقدرنا نحرك الصخرة وبدأنا ننزل واحد ورا التاني. وصرخ واحد فينا: "عفريت". ورجعنا جري على برة. فضحك خالد : - بس هتفضل ذكرى حلوة. كفاية إنكم مخفتوش تنزلوا. فعقد جده حاجبيه مازحًا: - متقولش لحد حكاية ديلنا دي. - بعدها عاد خالد إلى حجرته. ولكنه لم يغمض له جفن. هو يعلم أن ما سمعه يبدو أسطورة. ولكن السرداب موجود بالفعل، وجده لا يكذب قط. ثم نظر فجأة إلى الورقة المكتوب بها سبب رفض والد منى. أنه يريد شخصًا فريدًا . متنساش إن السرداب مسكون عفاريت وأشباح.