وتراجعت عندما وجدته يعرف كل الوجوه والمدن والبحار. في الحقيقة لم يكن هناك إصرار واضح لكن اختياره لي من بين كل الوجوه التي عج بها المقهى في ذلك اليوم الصيفي اللاهب هو مايبيح لي استخدام مفردة "إصرار". وبدون أية كلمة مهما كان نوعها يسحب كرسياً ويجلس قربي. جلست فترة طويلة قبل أن ينظر إلى وجهي ويقوم بحركة دلت على قراره بترك المكان. لم يقل لي اتبعني لكني وجدتني أسير وراءه. لم يقل لي غير كلمات لاتحمل معنى واضحاً وزعها بين فترات الصمت الطويلة جمعتها اليوم كلمة كلمة وهمسة همسة والتفاتة التفاتة وتقطيبة تقطيبة وابتسامة ابتسامة فبدت لي حكاية مقنعة. طرق تكمل ملامح بعضها بعضاً أدت بنا إلى مكان لايمت إليها بصلة. كل شيء كان يوحي بالحزن وكانت بنايات المدينة رثة. استجابة كانت المسافة بيني وبينها مسافتنا عن الحلم الذي يكمل أحلام يقظتنا الناقصة وعن المعاني والأشكال والصور التي تتسرب من بين أصابعنا حالما نحاول الإمساك بها. أعرف أني سرت بهذا الشارع من قبل. هبطنا السلم المؤدي إلى بوابتها الكبيرة ذات الطراز القديم. سرت إلى جانبه في دهاليز رطبة مظلمة ذات رائحة مميزة. تجولنا في عتمة الممرات التي أحدثت في داخلي أثراً عميقاً فكان عليّ أن استعين بحدسي وبالضوء الذي يتسلل من كوة بعيدة مبعثراً بعض عتمة الممرات. كنت أتمسك به من خلال نقطة الضوء. ومن طول انتظارنا كان الظل الذي يكونه الإفريز يضلل تميزنا للبوابة والنوافذ. الرائحة القديمة المميزة لخشب الأبواب ولنظافة الممرات وحتى الإحساس بالخشوع والرهبة. شعرت بأن كل شيء يحدث لي للمرة الأولى. ابتسم لي بطريقة أعترف الآن بعدم قدرتي على وصفها. تتوزع بين كريات دمي. ابتسامة جعلتني أنتفض وأسير إلى جانبه متابعاً نقطة الضوء. قال لي "إذا واصلت المشي هكذا ستكون أحدب قبل الأوان". ومن دون أن أنتظر جواباً وقبل أن يركن إلى صمته قلت له:‏ الكوة الوحيدة في البناية من الأشياء التي لم أجد لها تفسيراً -ما انفكت تتجول في المكان". كنت أنظر إلى وجهه منتظراً أن يقول أي شيء لكنه لم يفعل سوى الابتسام بامتعاض بل بانزعاج غادره مسرعاً. سار أمامي هذه المرة فحاولت اللحاق به. التفت إليّ وقال بصوت حنون "ألا تأتي؟" وواصل الخروج من دون أن ينتظر جوابي. أسباب دخولنا هذا المكان بالذات. بعد فترة طويلة نسبياً حضرت امرأة شاحبة، متشحة بالسواد مع طفلين أشارت إليهما بحمل المرأة وعندما لم تسعفهما، أيديهما النحيفة سحباها من شعرها وسارا مخلفين خطين متوازيين من الدم. كان رفيقي ينقل نظره بيني وبين مايحدث ثم لمس الإصبع الصغير ليدي اليسرى. ماذا؟ قد تكون الحمى فعلت فعلها معي وإلا ما الذي جعلني أفكر بهذه الطريقة. ومع هذا أثرثر بها الآن ربما لكي أخفف عبء الشعور بالذنب الذي اعتراني وحاول إزالته بنفس الابتسامة التي لايمكن وصفها. أقول هذا على الرغم من أنني لا أفقه ما تعنيه هذه الكلمة "الروح" لكني بالتأكيد أشعر بها مثلما شعرت بنقطة الضوء تلك التي اختفت وهو يسير أمامي مسرعاً، سبب! يالحماقتي وأنا أتفوه بهذه الكلمة. إذن ما بالي اليوم أطرق باب هذه الكلمة أنا الذي أملك الكثير من الأسباب التي تجعلني لا ألتفت إليها. هل يمكن أن تكون المدن لصق بعضها هكذا. وبقدر ما يتعلق الأمر بي يمكنني القول إنها كانت ساعات طويلة حسب. صوت الطبول ربما هو الصوت نفسه المعلن عن الأمور المتناقضة غير أن الجو برمته يمكن أن يشكل حدس السامع ويعلمه بجلية الأمر. رفعت رأسي وجدت أن مدينة الجبل ارتدت الحرب هي أيضاً، جبل وسهل وسهل وجبل ارتديا الحرب وكانت حشرجة الأمهات وصمت الجنود ورقة رهان كل منهما. اخترقنا مدينة السهل من غير أن يكترث بنا أحد وتوجهنا إلى مدينة الجبل، لم نستطع تمييز مقاتلي مدينة السهل عن مقاتلي مدينة الجبل. الطبول التي لم تكف عن الصراخ حتى رأيت نسوة متشحات بالسواد من مدينة الجبل ومدينة السهل يتوجهن إلى مدينة الصحراء بعيون ترنو إلى الأفق كل واحدة منهن كانت تسير وحيدة مثل قطرة مطر يوحد بينهن انهمار المطر والريح والعاصفة. رأيتهن يبحثن بين رمال الصحراء كل من انفراد. سمعت أصوات الطبول هذه المرة تقرع بالصوت اللاإنساني نفسه والناس يسيرون بصخب والبهلوانات يقومون بعملهم على أفضل وجه. ابتسم لي بانزعاج بل بامتعاض غادره مسرعاً واستمر في المشي. احتفظت بكل شيء لنفسي وقد يكون إدراكي للعبة هو ما جعلني أصمت. لأول مرة أراه يحدق إلى وجهي بهذه الصورة. نظر إليّ بامتنان وتقدير كبيرين. لكني كنت أحمل الإحساس بأني أقل منه بكثير، أما أقل منه بماذا فهذا أمر آخر لايمكن التعبير عنه. خرجنا من مدينة الصحراء بلا أدنى تعليق ثم وصلنا إلى مدينة أحسب أني أعرفها. لم أكن أنتظر منه جواباً. لم أسأل عنه أحداً واحتفظت بما أعرف لنفسي. الصمت الذي اعتقدت أني نجحت في إغرائه ليحتمي بي وأحتمي به لولا ذلك الشاب الذي رأيته يجلس في ركن منعزل من مقهى يعج بالرواد والوحيد الذي اختارني من بين كل الوجوه وأنا واقف عند عتبة باب المقهى مثقلاً بأوراق لم تعد تتسع لغبار المدن!!.