الطبيعة من جنس متفوق فغدا آسرا الكون بقوته . نعم " لقد كان الناس يتلفظون باسم الله عندما كانوا يسرحون أبصارهم على شاسعات البحار، أما الآن فقد تعلمتم الهتاف باسم الإنسان المتفوق. "[22] لاشك إذن أن سيرورة الفكر الإنساني والزمن وما أعلن عنها في حينها أنها حقيقة علمية أبرزت إلى الوجود مثل تلكم التصورات التي حصرت الوجود الإنساني في الحس المادي ورقيه من طور (القردية) إلى الإنسانية إنما يكون بتجويد الأجناس وصفائها من الاختلاط ليكون الإنسان ذا إرادة القوة والاقتدار . لكنه غرب " عن هذا الفيلسوف أن المخلوقات كلها في سلسلة الوجود لا تملك الانعتاق من حدود أنواعها، ومهما كرت القرون وتعاقبت الأجيال لا يمكن للجماد أن يفلت من مملكته إلى مملكة النبات ولا للنبات أن تجتاز حدود مملكة الحيوان ولا للحيوان أن يجتاح مملكة الإنسانية. لقد كان نيتشه من المعتقدين باستحالة الأنواع حين صرخ بلسان زرادشت وهو يخاطب الحشد في الساحة العمومية:" لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى، على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته. " ولكنه بالرغم من هذا يصرح بأن هذا النوع القردي وهو الإنسان لم ينسلخ عن أصله فكيف زين له خياله أن في هذا النوع إنسانا فائقا لا يزال كامنا منذ البدء ينتظر قدوم فيلسوف في أواخر القرن التاسع عشر يستجلي هذا الجبار ويبعثه بإرادة جديدة تتسلط لا على الحاضر والمستقبل فحسب بل على ما مر وتوارى أيضا في عاصفات الأحقاب . [23] إن الانحسار في الحس والتعامل مع الأشياء وكأنها الحقيقة ذاتها دون التطلع إلى الكوجيطو الديكارتي قد جعل العقل الغربي داخلا سرداب المادة ومنسلخا عن معرفتها والغاية من وجودها، وكأن الوجود هو الظاهرة ذاتها سابقة عن معرفتها " فإذا كان وجود الظواهر لا ينحل إلى ظاهرة وجود، وإذا كنا لا نستطيع أن نقول شيئا عن الوجود إلا باستشارة ظاهرة الوجود، فإن العلاقة الدقيقة التي تربط بين ظاهرة الوجود وبين وجود الظاهرة ينبغي أن تتقرر قبل كل شيء. فإذا اعتبرنا الوجود ظهورا يمكن تحديده في تصورات لا أنه شرط الانكشاف، فإننا قد فهمنا أولا أن المعرفة لا يمكنها وحدها تفسير الوجود، أعني أن وجود الظاهرة لا يمكن أن يرد إلى ظاهرة الوجود. "[24] لذلك فالواقع عند (سارتر) محصور في الظاهرة التي هي كما تظهر في الواقع دون إدراك قبلي لها، ومن ثم فهو غير متفق مع (باركلي) بقوله :" إن الوجود هو كون الشيء مدركا، أو ما سيفعله هسرل بعد أن قام بالرد الظاهراتي فنعت "النوئيما" بأنها غير واقعية وقال إن " وجودها هو إدراك. " مستدلا بأن العدم دليل على أن الوجود الظاهراتي إذا انعدم، انعدم إدراكه لأنه لن يستند إلى موجود صلب، ومن ثم وجود المعرفة لا يمكن أن يقاس بالمعرفة . ومن ثم فالوعي هو حقيقة: الوجود العارف بما هو كائن لا بما هو معروف. ومعنى هذا أنه يخلق بنا أن ندع أولية المعرفة، "[25] وخروجا من ثنائية الجوهر والعرض التي قعدها فلاسفة الأنوار وكذا الحكماء المسلمون بالتدقيق في العرض المادي المنبثق عن جوهره، يؤكد سارتر على الوجود الظاهرتي دون النظر إلى تلك الثنائية بقوله :" بل ثم موجود لا ينقسم ولا ينحل وليس جوهرا يحمل صفاته كأنها موجودات أقل، بل موجود هو وجود من كل ناحية. "[26] فلا عجب أن يكون الوجود هو الذي يحدد ماهية الشيء إمعانا في جعل العقل مطوقا بظاهر الشيء، ولئلا ينفسح الفكر والشعور والتأمل في المعرفة، بل إن الشعور باللذة في عرفه إنما هو بعد الخضوع لضرورة الواقع. ثم إن هذه اللذة إنما تم تحديدها في التصور الفرويدي باللذة الحسية الشهوية المرتبطة بالأنا الذي هو مستودع الليبدو، ومن ثم فالغرائز الجنسية لا تكون فعالة إلا داخل الأنا . وأي صراع بين غرائز الأنا والغريزة الجنسية هو مفض حتما إلى مرض نفسي، لاسيما وإن الأمراض النفسية لا تتأتى إلا حين يطرأ الصراع الغرائزي بين الأنا والغريزة الجنسية. و المعضلة العويصة أمام التحليل النفسي أنه "لم يمكنا حتى الآن من إثبات وجود أية غرائز أخرى غير الغرائز الشهوانية. "[27] التي هي غرائز الحياة عند فرويد ومن ثم فإنها يجب ألا تقابل غرائز الموت كالسادية . يقول هاهنا:" لقد كانت النقطة التي بدأنا منها هي المقابلة الواضحة بين غرائز الحياة وغرائز الموت . ولقد اهتدينا منذ أول الأمر إلى وجود عنصر " السادية" أو القسوة في الغريزة الجنسية، وعرفنا أن هذه " السادية" يمكن أن تستقل بنفسها وأن تصبح شكلا ممن أشكال الانحراف، فتسيطر على الحياة الجنسية .