مع والدي الشیخ راشد بن سعید آل مكتوم ماذا يحدث في أول يوم بعد رحیل استعمار دام 150 عاماً؟ لعل الإجابة عن ھذا التساؤل تشكل مدخلاً لفھم الكثیر مما يحدث الیوم في وطننا العربي، حیث رحل الاستعمار عن أغلب الدول العربیة في النصف الثاني من القرن العشرين بعد حراكات ونضالات وطنیة طالبت برحیله، لتستفید الشعوب من ثروات بلادھا التي ُحرمت منھا لفترات طويلة، ولیصبح لھا الحق في تقرير مصیرھا التنموي. لم تكن الصورة دائماً وردية بعد رحیل الاستعمار. فالدول بعد الاستعمار تزدھر بالإدارة الجیدة للاقتصاد، وبالإدارة الجیدة للخدمات الأساسیة للشعب، وبالعلاقات الجیدة مع جیرانھا، وأيضاً بالإدارة الحكیمة للنزاعات الحدودية التي تركھا المستعمر بین بلداننا كقنابل موقوتة. الإدارة الجیدة أوصلت بعض الشعوب إلى القمة، والإدارة السیئة انحدرت بشعوب أخرى إلى القاع. واقتصاداتنا المتھالكة، وحتى على تدھورنا الثقافي والعلمي. والحق أن اللوم يقع علینا نحن الذين تص ّدينا لإدارة الحكومات بعد رحیل الاستعمار. كنت موجوداً عندما رحل آخر الجنود البريطانیین من قاعدة سلاح الجو الملكي بالشارقة. رحل الاستعمار بعد 150 عاماً من تواجده الثقیل في منطقتنا التي لم يأبه باحتیاجات سكانھا التنموية. مع رحیل آخر طائرة، تعالت صیحات جنودي فرحاً وفخراً. أحسست بالحرية الكاملة في ذلك الیوم؛ إحساس بالحرية الكاملة، رافقه إحساس آخر شعرت بثقله على نفسي؛ إحساس بالمسؤولیة الكاملة. كنت أتنقل كثیراً بین الإمارات المختلفة كجزء من مھمتي الأساسیة في بناء قوة دفاع اتحادية. كانت الأوضاع سیئة بالنسبة لعدد كبیر من مواطنینا، وخصوصاً أولئك ممن يعیشون في الإمارات ذات الموارد الأقل. كان الناس يضطرون لشرب المیاه غیر النظیفة من الآبار، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الوفیات بین الأطفال. لم يكن لدينا عدد كاف من المدارس و المستشفیات. لم نكن نمتلك شبكة طرق جیدة تربط بین إماراتنا. كنا ننظر إلى المیاه النظیفة والكھرباء كنوع من الكمالیات والترف. روح تواقة للتغییر، روح متطلعة للمستقبل بأمل جديد. وللعلم بعد الجھل. كان شعبنا يرى في الاتحاد خلاصاً من سنین طويلة من الشقاء. أثناء جولاتي الیومیة بین المراكز العسكرية المختلفة في أنحاء الإمارات، كانت لدينا مؤن جیدة، وكنت أوزّعھا على تلك العائلات. كنت أدخل البیوت وأرى بعیني أن أمامنا طريقاً طويلاً لتغییر حیاة الناس للأفضل. ولعل زياراتي المتكررة لتلك العائلات جعلتني حريصاً جداً في طلب میزانیة الدفاع والتسلیح التي كنت أحتاج إلیھا. حاجة ماسة لبناء الإنسان. وكان الشیخ زايد والشیخ راشد يعدلان على میزانیة الدفاع أحیاناً بالزيادة لمعرفتھما بأنني كنت أقتصد لتوفیر المیزانیة الاتحادية للمشاريع التنموية التي كانا يشرفان علیھا ويتابعانھا بنفسیھما. كان زايد وراشد يريان ما أرى، ويعرفان احتیاجات المواطنین أكثر مني، لأنھا الأھم. لا يمكن لأي دولة أن تنظر إلى قوتھا العسكرية على أنھا أھم من رفاھیة شعبھا وراحته. ولكن إن لم يتم تحقیق التوازن، ستصبح مسؤولیة الجیش الدفا َع عن مجموعة من المواطنین التعساء والأراضي الجرداء. بل في قوتھا التنموية. ولكن شعبھا فقیر، فقیر حد الجوع أحیاناً. لا تملكان جیشاً كبیراً، لكن اقتصادھما يجعلھما في مصاف الدول الكبرى التي تسعى جمیع الدول إلى إقامة علاقات متمیزة معھا. حبانا الله بحكمة القادة المؤسسین في بداية الاتحاد لنوازن بین إنفاقنا العسكري وبین میزانیاتنا التنموية، ونوازن بین معاركنا الداخلیة في البناء، ومعاركنا الخارجیة لتحسین العلاقات وتجنب الأزمات، ونوازن بشكل مثالي بین رفع العمران وبین بناء الإنسان. الیوم التالي لرحیل المستعمر ھو الیوم الذي تحدد فیه معركتك التالیة. بعض الدول اختارت المعركة الخطأ،