لا يذكر اسمًا لهذا اليوم، ولا يستطيع وضعه حيث وضعه الله في الشهر والسنة. بل لا يستطيع أن يذكر وقتاً معيناً من هذا اليوم، بل يقارب ذلك وأعظم شبهته أن هذا الوقت من ذلك اليوم وقع في الفجر أو في المساء. ويحتمل أنه ذكر أن وجهه يومئذ تعرض لهواء فيه برد خفيف لم تنزعه حرارة الشمس. ويرجح ذلك لأنه رغم جهله بحقيقة النور والظلام، فإنه يكاد يتذكر أنه عندما خرج من المنزل استقبل نوراً هادئاً نورانياً لطيفاً، وكأن الظلام يغطي بعضاً من محيطه. ثم يحتمل ذلك لأنه يكاد يتذكر أنه عندما واجه هذا الهواء وهذا الضوء لم يشعر بحركة يقظة قوية حوله، بل أحس بحركة يقظة من نوم أم تقترب منه. فإذا بقي له من ذلك الوقت ذكرى واضحة وواضحة لا يمكن الشك فيها، فهي ذكرى هذا السور الذي كان يقف أمامه من القصب، ولم يكن بينه وبين باب البيت إلا خطوات قصيرة. يتذكر هذا السور كأنه رآه بالأمس. ويذكر أن قصب هذا السور كان أطول من طوله، لذا كان من الصعب عليه عبوره . ويذكر أن قصبات هذا السور كانت متقاربة، كأنها متقاربة، فلا يستطيع التسلل من ثناياها. ويذكر أن قصب هذا السور كان يمتد من يساره إلى حيث لا نهاية معروفة له، ويمتد من يمينه إلى آخر العالم في هذا الاتجاه. وكانت نهاية العالم في هذا الصدد قريبة، إذ كانت تنتهي في قناة يعرفها عندما يكبر، وكان لها تأثير كبير في حياته - أو بالأحرى في مخيلته. يتذكر كل هذا، ويذكر أنه كان يحسد الأرانب التي تخرج من المنزل كما يخرج خارجاً منه، وتعبر السياج، وتقفز فوق قمته، أو تتسلل بين قصبه، حيث تقضم على ما كان خلفه من نبات أخضر، وذكر منه الكرنب خاصة. ثم يذكر أنه كان يحب أن يخرج من البيت حين تغرب الشمس ويتناول الناس العشاء، فيتكئ على قصب هذا السور، ويفكر في تفكير عميق، حتى يرجعه الصوت إلى ما حوله. وكان الشاعر قد جلس على مسافة عن يساره، فاجتمع الناس حوله وبدأوا ينشدون عليهم خبر أبي بنبرة عذبة غريبة. زيد وخليفة ودياب، ولا يصمتون إلا عندما يستخف بهم الطرب أو تثيرهم الشهوة، فيستأنفون ويتشاجرون ويتشاجرون، ويصمت الشاعر حتى ينهوا صخبهم بعد وقت قصير أو طويل. ثم يستأنف ترديده العذب، دون أن تتغير لهجته إلا بالكاد. ثم يذكر أنه لم يخرج إلى موضعه عند السياج ليلاً. إلا في نفسه حسرة لاذعة ، لأنه كان يقدر أن سيقطع عليه استماعه لنشيد الشاعر حين تدعوه أخته إلى الدخول فيأبى فتخرج فتشده من ثوبه فيمتنع عليها ، فتحمله بين ذراعيها كأنه الثمامة ، وتعدو به إلى حيث تنيمه على الأرض وتضع رأسه على فخد أمه ، ثم تعمد هذه إلى عينيه المظلمتين فتفتحهما واحدة بعد الأخرى ، وتقطر فيهما سائلا يؤذيه ولا يجدى عليه خيراً ، وهو يألم ولكنه لا يشكو ولا يبكى لأنه كان يكره أن يكون كأخته الصغيرة بكاء شكاء . ثم ينقل إلى زاوية في حجرة صغيرة ، فتنيمه أخته على حصير قد بسط عليها لحاف ، وتلقى عليه لحافاً آخر ، وتذره وإن في نفسه لحسرات ، وإنه يمد سمعه مداً يكاد يخترق به الحائط لعله يستطيع أن يصله بهذه النغمات الحلوة التي يرددها الشاعر في الهواء الطلق تحت السماء . ثم يأخذه النوم ، فما يحس إلا وقد استيقظ والناس نيام ، ومن حوله إخوته وأخواته يغطون فيسرفون في الغطيط ، فيلقى اللحاف عن وجهه في خيفة وتردد ، لأنه كان يكره أن ينام مكشوف الوجه . وكان واثقاً أنه إن كشف وجهه أثناء الليل أو أخرج أحد أطرافه من اللحاف ، فلابد من أن يعبث به عفريت من العفاريت الكثيرة التي كانت تعمر أقطار البيت وتملأ أرجاءه ونواحيه ، والتي كانت تهبط تحت الأرض ما أضاءت الشمس واضطرب الناس . فإذا أوت الشمس إلى كهفها ، والناس إلى مضاجعهم ، وأطفئت السرج ، وهدأت الأصوات ، صعدت هذه العفاريت من تحت الأرض وملأت الفضاء حركة واطراباً وتهامساً وصياحاً وكان كثيراً ما يستيقظ فيسمع تجاوب الديكة وتصايح الدجاج ، ويجتهد في أن يميز بين هذه الأصوات المختلفة ، فأما بعضها فكانت أصوات ديكة حقا ، وأما بعضها الآخر فكانت أصوات عفاريت تتشكل بأشكال الديكة وتقلدها عبثاً وكيداً ولم يكن يحفل بهذه الأصوات ولا يهابها ، لأنها كانت تصل إليه من بعيد ، إنما كان يخاف الخوف كله أصواتا أخرى لم يكن يتبينها إلا بمشقة وجهد ، كانت تنبعث من زوايا الحجرة نحيفة ضئيلة ، يمثل بعضها أزيز المرجل يغلى على النار ، ويمثل بعضها الآخر حركة متاع خفيف ينقل من مكان إلى مكان ، ويمثل بعضها خشبا ينقصم أو عوداً ينحطم . وكان يخاف أشد الخوف أشخاصاً يتمثلها قد وقفت على باب الحجرة فسدته سدا ، وأخذت تأتى بحركات مختلفة أشبه شيء بحركات المتصوفة في حلقات الذكر . وكان يعتقد أن ليس له حصن من كل هذه الأشباح المخوفة والأصوات المنكرة ، إلا أن يلتف في لحافه من الرأس إلى القدم ، دون أن يدع بينه وبين الهواء منفذاً أو ثغرة . وكان واثقاً أنه إن ترك ثغرة في لحافه فلابد من أن تمتد منها يد عفريت إلى جسمه فتناله بالغمز والعبث . لذلك كان يقضى ليله خائفًا مضطربًا ؛ إلا حين يغلبه النوم وما كان يغلبه النوم إلا قليلاً . كان يستيقظ مبكراً أو قل كان يستيقظ في السحر ، ويقضى شطراً طويلاً من الليل في هذه الأهوال والأوجال والخوف من العفاريت ، حتى إذا وصلت إلى سمعه أصوات النساء يعدن إلى بيوتهن وقد ملأن جرارهن من القناة . وهن يتغنين و الله ياليل الله عرف أن قد بزغ الفجر ، وأن قد هبطت العفاريت إلى مستقرها من الأرض السفلى ، فاستحال هو عفريتا ، وأخذ يتحدث إلى نفسه بصوت عال ، ويتغنى بما حفظ من نشيد الشاعر ، ويغمز من حوله من إخوته وأخواته ، حتى يوقظهم واحداً واحداً . فإذا تم له ذلك ، فهناك الصياح والغناء ، وهناك الضجيج والعجيج ، وهناك الضوضاء التي لم يكن يضع لها حداً إلا نهوض الشيخ من سريره ، ودعاؤه بالأبريق ليتوضاً حينئذ تخفت الأصوات وتهدأ الحركة ، حتى يتوضأ الشيخ ويصلى ويقرأ ورده ويشرب قهوته ويمضي إلى عمله . فإذا أغلق الباب من دونه نهضت الجماعة كلها من الفراش ،