كل وظائف الوجود البشري تنحو لأن تدخل في مجال التسامي الديني. لقد ارتبط الجسد بالميتافيزيقي من حيث أنه تابع أبدي للذات / الروح. لأن الجسد قد مثل دائما تلك الكتلة المادية المشخصة الخطرة التي تميز الكائن الإنساني صورة ولا تميزه وجودًا إلا عبر المكونات الإدراكية والنفسية والسلوكية الاجتماعية "(1). تعتبر الجسد مبحثا ثانويا. إن هذا التهميش المزدوج في الثقافة العربية ارتبط لديها بالروحاني والفقهي والطبي وفي العصر الحديث بنفس المجالات بالإضافة إلى السياسي والأيديولوجي ذي المنزع الغربي. إن مبحث الجسد مفتوح دائما على ما يتجاوزه. فدراسة الجسد موزعة اليوم بين التحليل النفسي الذي يرى فيه موطن الهواجس و"الليبيدو" والفلسفة التي تتكلم عن ميتافيزيقا الجسد المبنية على الثنائية. و"الأنتربولوجيا" التي تتحدث عن علاقة الجسد بالممارسات الطقوسية والفهم "الأنطولوجي" للوجود من حيث هو جسد ثقافي، ومن حيث هو جسد رامز أيضا بهدف إلى التواصل الاجتماعي. أما علم الاجتماع فإنه يبحث في الجسد من حيث أنه ملازم للفهم الواعي الفردي والجماعي للعلاقات الإنسانية، وما إلى ذلك من العلوم الحديثة المهتمة بتمظهرات الجسد في الثقافة. حتى أن الجسد اليوم أصبح متعدد الدلالات منفتحا بطبيعته على جميع المعارف المتعلقة بالإنسان من الطب إلى علم الأديان، يقول فريد الزاهي: "إن تحوّل الجسد إلى موضوع فكري، وفلسفي وأدبي قد شكل المنعطف الذي اندمج فيه الجسد في التجربة الوجودية والفكرية والتعبيرية المعاصرة وهنا من اللازم القول بأن تجاوز الثنائيات التي حضرت الجسد في الحاقية هامشية، ثانوية لم يكن له أن يتم من غير تحويل الجسد إلى موضوع ممكن للفكر والتفكير "(1). فالجسد ليس كيانا منغلقا على ماديته الخالصة. فهو بناء رمزي يخضع للحالة الاجتماعية وللرؤية للعالم (2) أي أن الجسد ليس مسكنا أو قبرا أو حاويا وفقط بل هو علامة تتكلم وتشير، وتنخرط في تواصلية ذات دلالات مع العلامات الأجساد الأخرى. يقول فرانسوا شيرباز: "إننا لا يمكن أن نفهم الإنسان إلا إذا ما عدنا إلى جسدانيته، إننا لا نتعامل مع جسد بل مع الجسد البشري ولا نتعامل مع إنسان بل مع الإنسان الذي يوجد جسديا في العالم إن بحثنا سيفشل حتما إذا ما لم تعترف بأننا نتعامل مع جسم تسكنه قبل ذلك نفسية. لهذا فالبحث عن ماهية الجسد تستدعي الذهاب إلى لقاء السلوكات البشرية، لذا فإن الجسد لا يأخذ معناه إلا من خلال نظرة الإنسان الثقافية له (2). ويقول فريد الزاهي في الأخير ملخصا مفهوم الجسد الذي نتبناه في المبحث القادم: "إنه الجسد الشخصي الذي يشكل الوحدة "الأنطولوجية" التي تسم الكائن في العالم. ومن ثمة فهو يشكل هدفية الوجود الذاتي للإنسان. هذا الطابع لا يخلو من علاقات ذات ميسم ثقافي ورمزي وتعبيري يُعيد بها الجسد صياغة العالم ومنحه خصوصيات جديدة "(3). وفي الحقيقة فإن الجسد أجساد، فهناك الجسد الفقهي الذي يتحدث عن علاقته بالمقدس والمتعالي من طهارة ودنس ووضوء وحركات طقسية . والجسد التشريحي التي تتعامل معه العلوم بوصفه كائنا عضويا وهو يختلف عن جسد الثقافة والعلوم الإنسانية مثل الفلسفة التي تجعله موضوعا للتأمل وهذا جسد الفيلسوف الذي يختبره من الداخل. إنه ذلك الجسد الذي نجده في الآداب والفنون ونجده في جميع أشكال التخييل. أي يمكنه أن يشير إلى مرجعه الواقعي، فإن الجسد الذي يتمثله الأدب ومنه الرواية كجنس أدبي). فاللغة إذن هي المولدة للمعنى في الأشياء ومظهرة الدلالة في علاقة الذات با المحيط الذي توجد فيه وتسلك فيه سلوكا معينا يقول "دنيال سيبوني" عن علاقة الجسد باللغة: "إن الكتابة مثل الجسد، ونقرؤه عندما يكون صداه متاحًا من أجل الوصول إلى إيقاعاته التي تصنع صداه لا من أجل فهم معناه فحسب "(2). فالجسد يقرأ كما الكتابة ويتعامل معه كما الكتابة. وعلى الرغم من ذلك فالجسد سابق عن اللغة إذ تختلف تجليات التعبير الجسدي عن الدلالات اللغوية لأنها تجليات عفوية ومباشرة تكشف عنه واقع أصلي سابق للغة والجمل: ألا وهو الواقع الأنطولوجي للذات (3). وانطلاقا من هذا فإن إشكالية الجسد ستقودنا حتما إلى طرح معضلة الذات بإحالتها إلى جدلها القائم مع جسمها من ناحية الوجود الأنطولوجي المتمثل في (Représenté) الرواية. بمعنى أن هناك جسدًا لغويا، ومن المهم الإشارة إلى أن تعاملنا لن يكون إلا مع الخطاب في آنيته بعيدا عن خارج النص ( Le Hors Texte) سنعتبر أن الرواية لا تحيل إلا على ذاتها وإشكالها هو إشكال خاص بشخصياتها. إن الطابع التخييلي للجسد في الرواية هو ما حدا بنا إلى دراسته أولا وقبل كل شيء باعتباره مكونا خطابيا. قد تحول من واقعيته إلى جسد عجائبي. مقهور يعاني تحوله من جسدانية Corporéité) واقعية إلى جسد مخيف، أن تجربة الجسد هي ما يتواتر باستمرار في هذه الرواية. لأن الأصل في الحكاية كلها أن الفتاة التي ولدت في جسد أنثى حولت كما يحوّل النهر. لقد تحوّل الجسد عن غايته ليصير "آخر". إذ أن هناك اشتغالا هاما في هذا النوع من الأدب على هذه التيمة. فها هو "دونيز ميلييه" يسميه جسدا عجائبيا . فإن العجائبي لا يملك إلا أن يتلبس الأشكال والأجساد والأشياء وحتى الأمكنة (1). المتوغل والمتسرب إلى عالم يملك مقاسات ومعالم زمانية ومكانية خاصة بالتمثيل المشخص للواقع. الشخصيات المدهشة والمرعبة - تفكيرًا جديدا عن تركيبة الأجساد. يسمح الجسد العجائبي من خلال الكائنات المخيفة من تحقق ذلك التعارض في الأسس التي تصنع التماسك المنطقي للواقع (1) فالاختلال والاختلاط بين ما هو حيواني وبين ما هو إنساني، بين ما هو غير مفهوم ومتلبس من الجسد بما هو لغز فيه، فالجسد بتحولاته الملغزة وصوره المبهمة وعدم اليقين الذي نشعر به تجاهه وعدم قدرتنا على التحكم فيه أحيانا، لقد ارتبط الجسد دائما بالرغبة الجنسية، هناك يعتبر التخييل الطريق الملكي الأروع - كما يقول "دونيز ميلييه" - الذي تحاول الذات العجائبية الإفلات من خلالها من ربقة واقع الذي لا يحتمل (2). ويبدو الجسد أن التام والكامل والواضح، فالشعور "بالغرابة المقلقة" لا يبين عن نفسه في هذه الحال، إلا في سياق يمزج أفكارًا مسكونة بذلك الربط السريع بين الخلل العضوي وتجسيد الشر. ويؤكد "مالك شبيل" قائلا: "بيد أن الجسد، ومن ثمة الدخول في عملية تقديس العجيب Le merveilleux) وإلى التداخل غير المريح للشك الواخز بحسب تعبيره ويضيف: "إن كل هذه المعطيات تساهم في إحداث القلق الدائم والهاجس الذي تسميه الشعور بالاضطهاد" الذي يبين عنه الإدراك الشعبي للخلل الجسدي (3). فَيَنْعتُ أصحابها بالنحس، لذا يكون الجسد في المغرب العربي مقياسا للنقص دوما واللعنة تلحق به أولا مما يستدعي حمايته، وتحويل نظر الآخر عنه بعدم الاهتمام به وإقصائه في الأماكن المظلمة (1). فالأعضاء الجسدية لا تنعت مباشرة أبدا بل يكنى عنها فيصير بذلك جسدًا بعيدا تصنعه اللغة. إن الجسد في المغرب العربي كما يقول "شبيل" لا يأخذ كلا تاما بل متجزئا منفصلا بعضه عن بعض. فهل كانت جميع هذه الظواهر بادية في المتن الحكائي؟ سنبحث عن تجليات الجسد العجائبي في النص لنجيب عن هذا السؤال. تبدأ الرواية بالإعلان على أن الجسد هو مجال وحركة القص. وبحيث تصبح المرأة العجوز مالكة لأحقية الحكي عندما تحول الجسد الغض إلى فراغ أي عندما غابت حركة العلامة الأولى الشباب والمعاناة وجاءت حركة العلامة الثانية الشيخوخة والاستقرار ومن ثمة الأهلية للحكي. إن الجسد في هذه البداية الديباجة ص (5). وعلى ظاهر اليدين هناك تكمن قصة وإذ يعد الجسد هنا متنا، كتابيا يمكن أن يقرأ فيه تفتح أبوابه واحدا واحدا لنجد الألم والمعاناة. فلقد اكتفى الشاب صاحب الصندوق بالإشارة والتلميح والفتاة السافرة أشارت بجسدها وقالت كلاما عاما، وأما "بوشعيب" فقد فقد الكلام. أما الراوي الآخر الذي دخل ساحة مراكش وبدأ حكايته دون جمهور كان يتواصل مع الخواء، يجب نزع أقنعة الواقع وتعريته. غامض. أود أن أقول بأن كل شيء معقد، كانت متنكرة في جسد رجل. لم تستطع أن تختبره العالم إلا في جسد آخر. والواقع هو أننا لا نستطيع أن نختبر الوجود إلا في أجسادنا الخاصة. فهو ما يجعلنا نتجذر في العالم وهو الموجود الذي أعي الكون بواسطته "إن الجسد بوصفه جسدي الخاص وجسدي المعيش الذي له تأثير في ذاتي المفكرة هو أيضا المرجع والسند الحسي الذي أعي من خلاله كياني الواعي (1). وهذا ما جرى بالضبط في حكاية طفل الرمال، واجتازت حدود القوانين والسلط وعبرت عن ذاتها. لقد عبرت الرواية من بدايتها إلى نهايتها عن هذا التحول. ليس في جسد البطلة وفقط بل في أجساد الشخصيات الأخرى التي تعاني من الألم نفسه القنصل والجلاسة) حيث أن الحالة الأولى كانت حالة ضياع الهوية الجسدية وأعقبتها حالة المسخ ثم التحول وفي الأخير كان الخلاص عن طريق تجربة الألم، والحبس والختان بالنسبة للبطلة، لقد كانت قصة البطلة التي ليس لها اسم محدد، أولها ذاتها التي تصرح قائلة: "كان" علي من حيث المبدأ الخروج من تلك القصة . يجسد خاص" (ص (140). لأن الحكاية أصبحت جسدًا مزيفا أي قناعا آخر ينضاف إلى كل الأقنعة التي كان يضعها الأب على وجهها. لقد كان جسدها موضوع رغبة الأب وموضوع عاره أيضا وقد امتلكه وتصرف فيه فسلبه حريته. وامتلاك الآخر الجسدنا هو امتلاك لحريتنا. إن صورتنا الجسدية عند الآخرين هي العار والمحرم. ولا يمكن أن يعيي الآخر أن خبرتنا لأجسادنا هي خبرة خاصة في المكان والزمان. ولما كان الإنسان يعيش تاريخه الخاص يجسده الخاص ولما كان تاريخه هذا هو في نفس الوقت تاريخ خبراته الجسدية فهو يعيش في علاقته مع نفسه ومع الغير ومع الأشياء بجسده الذي يندرج في الزمان بل بجسده الزماني "(1). لقد انطلقت في مغامرة القرية من المقبرة / الجسد المظلم إلى (القرية / اليوتوبيا) مع الفارس (الذكر) كي تستحم في ماء بحيرة وسط الأدغال. "لقد غسل ماء تلك العين جسدي ونفسي" (ص (80). وراحت تعيش هلوسة أخرى في أولى تجاربها الجنسية "وهبت جسدي للدغل والأرض" (ص 48). لقد كان يلزم تنظيف الضمير، يقول "فرانسوا شيرباز" إن الرغبة تنبثق كقوة ودفق مدهش، يحيل إلى الطرق الذي يتعرف فيها الكائن على الوجود. إن الرغبة وهي تستيقظ ليست "دفقا" بسيطا يحيل على ميكانيكية العلاقة بين كائنين "إنها بشكل متبادل تجربة جديدة الجسدنا واكتشاف للآخر كجسد"(1). وبكلمة واحدة. وينخرط فيه ويلتقيه "(2). هكذا فالبطلة قد تعرفت إلى ذاتها، أما القنصل هذا الفتى الضرير المعطوب الجسد، والذي سلبت منه رجولته فقد تحول إلى كائن مخيف. حتى أنه يستعير أعين الآخرين كي يرى، وكما ملك الأب جسد الفتاة. لقد انزوى في ظلمته وأخذ يفتش عن الخلاص عبر التخييل. لقد صنع بنفسه عالما خاصا أنثه بالأجساد الخيالية. ففي تلك الحديقة أو الجنة التي يرتادها وحيدًا عبر أحلام اليقظة، يقول "جلال الدين سعيد" في هذه العلاقة: "الجسد لا يقارن إلا بالآثار الفنية. كلها أفراد، فهي تشع بدلالاتها دون أن تغادر مكانها في الزمان والمكان"(1). ولا يمكن معرفة الكتب إلا بالاختبار الجسدي. وفي الفرنسية يقتسم (Le corps الجذر اللغوي مع (Corpus) ويقول فريد الزاهي : "بين الكتابة والجسد تواطؤ أساسي أدرك القدماء خطورته فصارعوه وإن لم يصرعوه. فالكتابة كدال وحرف تشكيل وتصوير و "ظل" مادي عيني المتعال يكون هو المعنى والصورة والمثال. وكما أن الجسد موضع لما يسمى عادة بالروح فالحرف موقع ومحال للمدلول "(2). فالكتابة كما الجسد يتم تصورها كمجرد مأوى للمعنى والروح. لكن ما هي الآلية المتحكمة في الآلية الجسدية والآلية اللغوية التي تجعل الجسد يتشاكل مع اللغة والكتابة؟ يقول "جيل دولوز: "إنها التني والعطف. "أي الجسد واللغة يعكس أحدهما الآخر لأن كلاهما ثني. كما يوجد حديث ورواية داخل الجسد"(1). لا يمكن للإنسان أن يعطى للذاته إلا صورا محسمة جميلة ولا يمكن أن يعطي المخاوفه إلا صُورًا أخرى مرعبة. كانت هذه طريقته في التخلص من الألم. حَسَدٌ سالبٌ ومُسْتَلِبٌ. كل ما لدي مائل الجسد وما بداخله" (ص 78). وتردُّ عنها الموت. أسى وعجز لا نهائي يقود إلى الظلمات" (ص (77). لقد كانت خيبة جسدها هي ما دفعها إلى هذا الألم كله وإلى كونها جسدًا مشوها يقسو ويسلب حرية "الآخر" إن الجسد هنا متعدد، متشظي في أجساد أخرى على الرغم من أن تجربة "الأنا" والشعور بالذات المستقلة لا تكون إلا في الجسد الخاص. فالجسد المصدوم جسد مخطوف مسروق، ذاتي ولا ذاتي. إنه "ذاتي" الغريبة" كما يقول "سارتر"(1). إن التشويه في الذات المغتربة على العالم، باب التصور العجائبي للجسد الذي يتركب من الاستيهام والرغبة والخوف باعتبار أن "ليس هناك من شيء أكثر غموضاً بدون شك من نظر الإنسان في عمق جسده الخاص"(2). الذي يحاول إدراكه والعيش به. إن عدم خضوع الجسد للوعي يؤكد مرة أخرى لغزيته من جهة ولا تحدد وغموض الوجود ذاته "(3). هكذا تعرف الشخصيات الفاعلة في الرواية (الجلاسة والقنصل والبطلة أن عليها المقاومة لإثبات وجودها. كينونة الذات بشكل عميق، حتى أن أيا من علاقاتي مع الآخرين، وإذا كان لا مناص من تلازم الجسدانية Corporéité) مع الكائن، د. الألم والعبور والاستسلام للشرط الذي أوقعها فيه المجتمع. إن "فاطمة" وقد ماتت بالصرع تعبر عن غربة الجسد وقهره إلى درجة أنه تحول إلى كتلة من الألم. إنه الألم المتاهة. كان جسدها مخطوفا ومعارًا للمجتمع يفعل به ما يشاء. إنه الألم لا يتمازج جسديًا معي كليا، المعنون بركة ماء ثقيل حيث كانت تجوس في بركة عفنة من الهلوسات وفي هذه المياه النتنة تقول: تعرفت على جسد فاطمة بنت العم البئيسة المصابة بالصرع . رأت أجسادًا مشوهة. كان ثمة حشد من الأجساد المفرغة من كل ماهية ينتظر بتلك الحظيرة . لكن الألم يكشف لي أن جسدي هو آخر". وأن تعيش الألم فإن الحضور يكشف في عمق الذات عن جسدانية كشيء غريب وغامض و "آخر" في نفس الوقت "(1). كان يلزم الكثير من الألم إذن للانسلاخ عن أجساد الآخرين للقاء الأجساد الحقيقية التي تختبرها بدل تلك التي يمنحها لنا المجتمع. وبما أن الجسد ظلمة فإنه لا يمكن أن نعرف العبور إلا عندما تختبر الظلمة تقول الراوية في تجربة الظلمات إن العمى حينما يقبل برضى يَمْنَحُ بصيرة وشفافية فريدتين فيما يخص الذات والعلاقات مع الآخرين (ص) (114). وتضيف "كانت طبقة العتمات التي كنت أستقدمها نحوي تزداد كثافة يوما بعد يوم. فكانت تُساعده على الانفصال عن جسدي على تركه سليما" (ص (119). أنا أنثى. وفي الأخير أصبح الجسد الملجأ والقيمة الوحيدة وهو ما يبقى عندما تتلاشى كل الملاجئ والقيم ولتصبح كل علاقة اجتماعية ذات طابع عرضي. "إن الجسد يبقى المرساة الوحيدة القابلة لأن تشد الشخص على يقين مازال مؤقتا بالتأكيد وبواسطتها (المرساة / الجسد) يُمكنه أن يرتبط بحساسية مشتركة ويلتقي بالآخرين ويشارك في تدفق الإشارات، وأن يُحس دائما بأنه على صلة مع مجتمع يسود فيه عدم اليقين (2). لقد كان الجسد بالنسبة للبطلة المرساة التي تربطها بالوجود بعدما فقدت المعالم يوم دفن الأب. ولم تبق إلا حقيقة الجسد المتجذر في العالم. إن علاقة الأب بالفتاة علاقة زائلة كانت مبنية على القهر وعندما فقدت اليقين لم تلتق إلا يجسدها الذي يُعد يقينها الوحيد. وكذلك الأمر بالنسبة للشخصيات الأخرى. لقد كان عبورًا إذن من جسد هو صورة صنعها "الآخر" إلى الجسد الخاص. لكن يجب على هذه الذوات أن تبحث لنفسها عن معنى. إذ أن التحقق في جسد ما يحتاج إلى دلالة باعتباره متنا (corpus) وباعتباره علامة تحتاج إلى تأويل. هي معرفة من نوع آخر مختلف. إن اللقاء الأخير في الولي (ص (147) دليل على أن الأمر يتجاوز ما هو جسدي للبحث فيما وراء ذلك. إنك بالأحرى من اللواتي يتركنها قصتك سلسلة من الأبواب التي تنفتح على مجالات بيضاء ومتاهات تدور" (ص (133). وقد صار وجهها "أكثر هدوءا، كان من العنف بحيث رأيت كرة معلقة هي منبع ذلك النور" (ص 148). يبدو أن البطلة تكتشف أن الخلاص الحقيقي ليس في الجسد، إن اجتراح الألم يفتح باب التخيل. وهو ما وقع فعلا لهذه الشخصيات القلقة حول مصيرها. إن العجائبي يفتح هذه الأبواب في التفكير البشري الذي ينحوا إلى إقصاء كل ما هو خارج العقل. إن العجائبي لا يستحضر ما هو غائب وفقط، بل يجعل ما هو واقعي قابلا أن يتفجر عن ما هو غائب. فهو يجعلنا نشك في قدرة حواسنا على إدراك العالم. الخيالي. إلخ) إنه انقلاب في كل هذا. فقد يكفي أن يتدخل عنصر فوق طبيعي أو يتدخل عنصر خيالي نصنعه بهواجسنا حتى نعيد التساؤل حول الأسس التي ينبني عليها إدراكنا. وهذا طرح يدخل في مجمل ما توحي إليه هذه التجربة في الوجود التي تحاول دائما التعرف إلى نفسها في أصلها. في التجربة "الماورائية". أو فيما يخص قضية تفضيل الذكورة على الأنوثة. قد خيبت أفق انتظار القارئ، فيما نظن؟ يبدو الأمر غريبا لكن هناك إشارات مزروعة على طول مسار الحكاية، بعضها خفي وبعضها بين، تقول البطلة. "لقد زهدت. أنا زاهدة بالمعنى الذي أعطاه الحلاج لها في صوفيته". وتشير الراوية في الحوار إلى أن الظاهر هو القناع الخفي للحقيقة. وتؤكد أن حقيقتها كانت ملتبسة إلى أن تعرفت على انوثتها بل حتى انخرطت تبحث عما هو جوهر في الذات الإنسانية أي ما وراء الجسد. هذا الإشكال لا يمكن أن يحله المؤلف إلا بهذه النهاية. كما أن الدال والمدلول في العرف الصوفي يصبحان واحدا. والجسد روح. صاحب كتاب الإنسان الكامل" في رسالة مخطوطة قوله "إن الصوفية فرقوا بين الجسم والجسد. وقالوا أن الجسد عبارة عن كل صورة يتشكل بها روح من هذه الصور الجسمانية "(1). ويضيف عاطف جودة نصر عن علاقة الخيال والتخيل بالجسد وبالطرح الصوفي العرفاني وربما قيل أن دلالة الجسم والجسد واحدة ولكن الدلالة هنا ذات أساس معجمي تتجاوزه العرفانية الصوفية صوب دلالات أخر. وعلى الإهابة بالمصطلح الصوفي من ناحية أخرى"(2). الجسد على أنه كل روح ظهر في جسم ناري أو نوري. نقلا عن عاطف جودة نصر الخيال مفهوماته ووظائفه الفتوحات، أنه كل روح أو معنى ظهر في صورة جسم نوري أو عنصري حتى يشهده السوى (1) . فمفهوم الجسد مشاكل ومواز للمفهوم الذي أعطوه للألفاظ كأجساد والمعاني كأرواح. وهذه الرؤية هي ما نفهمه من تلك النهاية المبهمة والمفتوحة على المقدس الممزوج بالجسدي في (ص) (149). فعندما عبرت الراوية الجدار القصير وانتقلت إلى البحر ودخلت في مشاهدات نورانية، هيا أنظر برفق إلي بأصابعك،