حَرارَةُ شَمْسِ هَذَا الْيَوْمِ بَلَغَتْ دَرَجَةً جَعَلَتْها تُلْهِبُ بسياطِها كُلَّ مَا يَقَعُ تَحْتَ يَدِها . السُّكُونُ يُغَيِّمُ عَلَى كُلِّ مَكَانٍ، لا تَسْمَعُ إِلَّا الصَّحِيحَ الْمُتَماوج فِي الْفَضاءِ مُعْلِنَا عَنْ حَرارَةٍ لا تُطَاقُ الْخَيْمَةُ الكبيرة، السكونُ يَسودُ الْخِيامَ الصَّغِيرَة المحيطة بِالْخَيْمَةِ الْكُبْرِى حَتَّى الْكِلابُ وَالْقِطَطُ كَانَتْ في غَيْبُوبَةٍتامَّةٍ، تارَهُ تَعْرِفُ بِيَدَيْهَا الصَّغِيرَتَيْنِ الْبَتَيْنِ الْمَاء مُباشَرَهُ، وَبَارَهُ أُخرى تَمْلَأُ الدَّلْوَ الْأَسْوَدَ لِتُفْرِغَهُ فَوْقَ ساقيها وقَدَمَيْهَا، فَتَنْتَشي بِالْبُرُودَةِ وَهِيَ تَطْرُدُ تِلْكَ الْحَرارَةَ مُحَوِّلَةً إيَّاها إلى بُخارٍ مُتَصَاعِدٍ في الهَواءِ، أَحَسَّتْ بانتعاش وَحَفِيفُ شَجَرَةِ التِّينِ الْعَظِيمَةِ يُلامِسُ وَجْهَها وَأَطْرافَها نَظَرَتْ حَيْثُ يَرْقُدُ النَّهْرُ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنْهَا. تَمَنَّتْ لَوْ أَلْقَتْ بِنَفْسِهَا فِي مِيَاهِهِ الْمُنْعِشَةِ مِثْلَما كَانَتْ تَفْعَلُ إِلى عَهْدٍ قَريبٍ. وَالْفَضاءُ الْمُحِيطٌ بِالْخَيْمَةِ الْكُبْرَى يُكْبَسُ وَيُرَشُ بِالْمَاءِ. مَواقِدُ الْفَحْمِ النِّحَاسِيَّةُ ذاتُ الْأَرْجُلِ الثَّلاثِيَّةِ تَعْلُوها بقاريحُ الْمَاءِ فِي شُموخ وكبرياء يَخْطَفُ لَمَعَانُها الْأَبْصارَ تَحْتَ أَشِعَةِ الشَّمْسِ الصَّاعِدَةِ. وَتَوَجَّهَتْ نَحْوَ عَزَّوزَهُ قَائِلَةً: - هذا جهازُ عُرْسِكِ قادِماً ، - جهاز عُرسي أنا !؟ - نَعَمْ، لَقَدْ طَلَبَ الْحاجُّ الجيلالي يَدَيِ لِابْنِهِ، بِالْكَادِ تَمَالَكَتْ كَيْ لَا تَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ. ! قاطعتها سَيِّدَةُ الدَّارِ غَاضِبَةً: - ما هَذَا الْكَلَامُ الْغَرِيبُ؟ لَوْ سَمِعَكِ أَبُوكِ لَعَاقَبَكِ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ. اَلْحَاجُ الجيلالِيُّ يَتَوَسَّطُ الْمَوْكِبَ وَقَدِ اعْتَلَى فَرَسَهُ الَّذِي أَسْرَجَهُ بِأَحْسَنِ سُرُوجِهِ. وَقَفوا خَلْفَ الْخِيَامِ يَنْتَظِرُونَ وُصولَ الْمَوْكِبِ وَقَدْ لَبِسُوا أَزْهَى مَلَابِسِهِمْ. دَخَلَتْ سَيِّدَةُ الدَّارِ تَطْمَئِنُّ عَلَى عَزّوزَهُ، فَلَمْ تَجِدْ لَهَا أَثراً: - أَيْنَ ذَهَبَتْ الْمَفْرُوضُ أَنْ تَظَلَّ داخِلَ الْخَيْمَةِ بَعْدَ تَغيير ملابسها، ما هَذا الطَّيْسُ ؟ لا يَصِحُ أَنْ تَخْرُجَ الْعَرُوسُ لِمُلاقاةِ مَوْكِبِ الْعَريس. يَتَقَدَّمُ الْحاجُ الجيلالي لِمُصافَحَةِ عَلِيِّ الجَعَابِدِي. فَجْأَهُ انْطَلَقَتْ صَيْحَةٌ مُدَوِيَّةٌ تَجَمَّدَتْ لَهَا قَدَما عَلِيِّ الجَعَابِدِي. كُلُّ الْأَنْظَارِ اتَّجَهَتْ نَحْوَ الْجِهَةِ الشَّرْقِيَّةِ. رَفَعَ الْمُتَجَمْهِرُونَ أَيْدِيَهُمْ فَوْقَ عِبَاهِهِمْ مُحاوِلِينَ تَعَرُّفَ تِلْكَ الْكُتْلَةِ الرَّمَادِيَّةِ الَّتِي يَجُرُّها رَجُلٌ رَأى الحاج الجيلالي الشَّبَحَ الْمَجْرُورَ يَتَقَدَّمُ نَحْوَهُمْ وَسَطَ هالَةٍ مِنَ الْغُبارِ الرَّمادِي الْمُتَطَابِرِ، فَقَطَّبَ حَاجِبَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: - أعوذُ بِاللَّهِ ما هَذا الْفَالُ السَّيِّئُ. لَقَدْ تَمَرَّغَتْ فِي الرَّمَادِ ! هُرِعَتِ سَيِّدَةُ الدَّارِ تَحْتَضِنُ عَزّوزَةَ وَتُبْعِدُها عَنِ الْأَعْيُنِ الْمُتَطَلِّعَةِ. رَأَى سَيِّدَةَ الدّارِ تُرافِقُ عَزّوزَةَ إِلَى الْخَيْمَةِ، فَالْتَفَتَ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَائِلاً: هاتها إلى هُنا سَأَجْلِدُها حَتّى الْمَوْتِ وَأَدْفِنُها في تِلْكَ الْمَرْمَدَةِ الَّتِي مَرَّغَتْ فِيها كَرامَتي.