الحقيقة أن الباحث في العلاقات الخليجية - الهندية، لا يستطيع من أين يبدأ بحثه نظراً إلى تشعب هذه العلاقات وتنوعها في كل المجالات، ولهذا تعتبر هذه العلاقات ذات خصوصية وتميز، خصوصاً أن طرفيها خضعا في وقت من الأوقات لإدارة سياسية واحدة هي إدارة الهند البريطانية، ولأن الهند اليوم تقفز قفزات واسعة نحو الصعود إلى مراتب الدول الكبرى، في الوقت الذي تواجه فيه البلاد العربية جملة من التحديات والمعضلات على الصعد السياسية والأمنية والتنموية وخلافها، يُفترض بعث العلاقات القديمة ما بين الجانبين الهندي والعربي وتجديدها وتعزيزها لما فيه مصلحة الطرفين، خصوصاً أنه لا يوجد للهند ماضٍ استعماري، علاوة على أن الكثير من الملفات والقضايا البينية الشائكة التي أزَّمت علاقة الهند ببعض الدول العربية في حقبة الحرب الباردة، العلاقات التاريخية القديمة ومما لا شك فيه أن علاقات الهند بمنطقة الخليج تضرب جذورها في أعماق التاريخ البعيد، فوفقاً للحفريات والدراسات الأركيولوجية التي أُجريت في سواحل الهند الشرقية، وما يقابلها من سواحل الخليج العربي، فإن تاريخ نشوء هذه العلاقات يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد حينما نشأت روابط تجارية ما بين حضارة وادي الإندوس وحضارة الرافدين القديمتين. وبسبب الازدهار النسبي لبعض مناطق الخليج وقتذاك لجهة توفر المواد الغذائية والمياه العذبة، كما كان الحال في مملكة دلمون البحرينية، ومملكة ماجان العمانية، فقد اتخذت هذه المناطق في الخليج كمحطات ترانزيت للتزود بالماء والطعام أو للراحة من قبل السفن التجارية المتنقلة ما بين بلاد الهند وبلاد الرافدين. وظلت كذلك لفترة طويلة قبل أن يتعلم أبناء الخليج فنون وأساليب التعامل التجاري المباشر مع الهنود، وطبقاً لبحث أركيولوجي هندي، فإن اثنتين وأربعين سلعة على الأقل كان يتم فيها التبادل التجاري في تلك الحقبة السحيقة، وفي مناطق أخرى من دولة الإمارات العربية المتحدة، إضافة إلى أحجار للوزن من تلك التي كانت تستخدم في المدن الواقعة على ضفاف نهر السند ما بين عامي 2300 - 1800 قبل الميلاد. الهند والعرب قبل الإسلام وبعده قبل مجيء الإسلام بوقت طويل، وقد بلغ إعجاب العرب بالهند أن أطلقوا على بناتهم اسم «هند»، ونسبوا سيوفهم إلى الهند فسموها بـ«المُهّند». وقد تعزز كل هذا بمجيء الإسلام في القرن السابع الميلادي، ثم بنجاح المسلمين في فتح العراق وبلاد فارس، وانتقال عاصمة الدولة الإسلامية من مكة إلى دمشق، إذ كانت لهذه التطورات مجتمعة أثرها الإيجابي على ازدهار الروابط التجارية ما بين العرب والهند. وبعبارة أخرى أدى قيام دولة إسلامية موحدة مترامية الأطراف، الأمر الذي أدى بدوره إلى تزايد وتيرة الاستيراد من الهند عبر الخليج وبالتالي تعززت حركة الاتصالات ما بين عرب الخليج والهند. وبدخول أجزاء من الهند في الدولة الإسلامية كوحدات تابعة للأخيرة مُدارة من دمشق، وذلك على أثر نجاح المسلمين العرب في عام 711 للميلاد في فتح بلاد السند بقيادة «محمد بن القاسم»، كما ازدهرت على هامشها وللمرة الأولى العلاقات الثقافية والعلمية والفكرية والاجتماعية، ففي عهديهما الموسومين بـ«العصر الذهبي» للعلاقات الهندية - العربية انتقلت ثمار العلوم والإبداعات الهندية إلى العرب عبر ترجمة عدد كبير من المؤلفات من الهندية إلى العربية في الأدب، والتي حملت عدداً من الرحالة والجغرافيين والمؤرخين العرب على السفر إلى الهند، فظهرت على أيديهم أوائل الكتب العربية من تلك التي تصف بلاد الهند وأوضاعها السياسية والاقتصادية وعادات أهلها وتقسيماتهم العرقية والمذهبية. وفي فترة ما قبل ظهور الإسلام وبعده حدثت تحركات ديموغرافية ما بين منطقتي الخليج وشبه القارة الهندية في الاتجاهين. نزوح أقوام من الهند باتجاه سواحل الخليج العربية أولاً، ومن ثم باتجاه مناطق أخرى مثل البصرة وبلاد الشام، كانت هناك هجرات عربية من الخليج وشبه الجزيرة العربية صوب السواحل الهندية -لا سيما الجنوبية منها- لأسباب مختلفة مثل القحط، أو من أجل التجارة والكشف الجغرافي والتدوين التاريخي. وبعبارة أخرى نزل المهاجرون والتجار من شبه الجزيرة العربية على سواحل الهند الجنوبية قبل زمن طويل من الفتح الإسلامي لبلاد السند، مستفيدين من أجواء التسامح الهندي، وانكفاء الهنود على أنفسهم داخل حدودهم، وهكذا ظهرت في جنوب الهند مستوطنات عربية، ويستند البعض إلى حقيقة تلك الروابط القديمة ما بين عرب شبه الجزيرة والخليج وساحل «مليبار» الهندي لتفسير ظاهرة من الظواهر المعاصرة في الخليج وهي أن أكثر من أربعين بالمئة من إجمالي الهنود العاملين في منطقة الخليج في الوقت الراهن هم وافدون من ولاية «كيرالا». الهند والخليج في الحقبة البريطانية بعد فترة الهيمنة البرتغالية على سواحل الخليج وسواحل الهند الغربية والتي بدأت في نهايات القرن الخامس عشر، وشهدت خلالها علاقات الهند في منطقة الخليج والمنطقة العربية عموماً تراجعاً واضحاً بسبب رعونة البرتغاليين وجشعهم وبطشهم، ولعل من المفيد هنا تأكيد أن تكبيل البريطانيين للخليج بمعاهدات الحماية لم تكن إلا بسبب الهند، وما كان للمستعمر في الهند من مصالح وأطماع اقتصادية واستراتيجية. فإننا كنا ضحية لأهمية الهند، وقربها الجغرافي من الخليج من جهة، ونعني بهذا التطور بروز مقاومة للنفوذ البريطاني في المحيط الهندي من قبل «القواسم» الذين امتلكوا وقتذاك قوة بحرية تجارية عسكرية أتاحت لهم التوسع وبسط نفوذهم على أجزاء واسعة من سواحل الخليج العربية . إلى أن كبَّلت المنطقة بمعاهدات في أواخر القرن 19 وبداية القرن 20، في حقبة الهيمنة البريطانية على الهند، «كان الخليج يُدار من قبل حكومة الهند البريطانية، وأصبح جهازه الإداري تحت سيطرة موظفين مختارين من جهاز الخدمة المدنية في الهند. وصارت العملات المتداولة فيه محصورة في الروبية الهندية، غير أنه من التسطيح بمكان اختزال علاقات المنطقتين والأدوار الهندية في الخليج في تلك الحقبة في مثل هذه العبارات العامة. وإمعانهم في تقييد حرية أبناء الخليج لجهة التعامل والتواصل مع الآخر، الأمر الذي جعل الهند تحتل مكاناً بارزاً في موروثات الخليج الشعبية والاجتماعية والثقافية لفترة طويلة نسبياً. مثل هذا الارتباط لم يكن ليمر دون أن يفرز أثراً هندياً واضحاً على مجمل مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في الخليج. بصمات الهند على مجتمعات الخليج العربي الأدوار التي لعبتها الهند في منطقة الخليج في حقبة ما قبل استقلالها، من خلال أسواقها العامرة، بل لعب الهنود دوراً مهماً في مساعدة تجار الخليج، مما مكنهم من تجديد مراكبهم والاستفادة من الخامات والمهارات العالية ذات الصلة المتوفرة في الهند. وفي مقابل تردد تجار اللؤلؤ الخليجيين على سوق اللؤلؤ الكبير في مدينة بومباي والمعروف باسم «Motti Bazar»، ولعبت الهند على مدى عقود طويلة دوراً رئيساً في تزويد أهل الخليج بكل مستلزماتهم المعيشية من غذاء وكساء ودواء وكماليات. ولعل ما سهَّل الاعتماد التجاري الخليجي على الهند بهذه الصورة الكبيرة هو وجود وسيلة واحدة مشتركة للدفع متمثلة في الروبية الهندية. كما لعبت الهند دوراً في إثراء العديد من مؤسسي البيوت التجارية المعروفة في منطقة الخليج. حيث كان انطلاق هؤلاء نحو عوالم الثراء والريادة في قطاعات المال والأعمال والصيرفة والتوكيلات التجارية وأنشطة الملاحة البحرية ابتداءً من الهند، ثم من خلال استخدامهم لتلك المكاتب في توثيق علاقاتهم بنظرائهم الهنود، وصولاً إلى حصولهم على توكيلات تجارية حصرية مثل احتكار عملية نقل الحجاج الهنود من الهند إلى الأراضي المقدسة في الحجاز، ومثل احتكار حق تمثيل «شركة المغول الملاحية» لنقل البضائع والمسافرين ما بين الهند وسواحل الخليج العربية والفارسية، تجارة ويقظة اجتماعية وتفيد السجلات التاريخية بأن معظم تجار الخليج المتعاملين مع الهند في العقود الأولى من القرن العشرين كانوا من ذوي المدارك الإصلاحية والشغف بكل ما كانت تحتضنه الهند من كنوز معرفية وظواهر حضارية وقيم تنويرية. لذا فقد وزَّعوا أوقاتهم في أثناء ترددهم على الهند ما بين التجارة، وبناء العلاقات الاجتماعية مع النخب الهندية، ناهيك بالاجتماع والاحتفاء بمن كان يحل أو يمر بـ«بومباي» من أعلام الفكر والسياسة العرب المنفيين أو الهاربين من ظلم السلطات الاستعمارية في بلادهم، من أمثال رشيد محمد رضا، وبما شكل نواة لحركة اليقظة الاجتماعية والثقافية والسياسية في منطقة الخليج العربي. وكان من نتائج هذا أنْ تشكلت الأندية الثقافية في الخليج، مثل «نادي إقبال أوال» و«النادي الأدبي» في البحرين في عامي 1913 و1920 على التوالي على يد نفر من الشباب البحريني، وظهرت الصحف كصحيفة «البحرين» في عام 1939 على يد الشاعر والمصلح وتاجر اللؤلؤ عبدالله الزايد، فقرر أن تكون لبلاده صحيفة، وهكذا برزت «بومباي» حتى نهاية الحرب الثانية أو بعدها بقليل كوجهة وحيدة لأبناء الأسر الخليجية الحاكمة، ثم انتقلت عدواها إلى مناطق أخرى في الخليج، وفرض قوانين مدنية وجنائية وتجارية حديثة مستمدَّة مما كان معمولاً به في الهند، وما أعقبها من أعمال تطويرية في حقبة ما بعد اكتشاف النفط كإنشاء البلديات وشبكات الاتصال والإنارة وتأسيس دوائر صحية وزراعية. على مواهب وكفاءات الهنود من ذوي الياقات البيضاء. أما الهنود التجار والهنود من ذوي الياقات الزرقاء فلم يحلّوا بالخليج إلا لاحقاً. انتهز بعض التجار الهنود الوضع لتأسيس أنشطة وبيوتات تجارية في الخليج لمواجهة تزايد الطلب على البضائع التقليدية وأيضاً على المنتجات العصرية من أجهزة وكماليات لم تكن معروفة أو متداولة على نطاق واسع في الخليج، ولم يكن بمقدور التجار المحليين توفيرها من مصادرها الأصلية في الغرب، وقد رافق هذا التطور زيادة ملحوظة في أعداد الهنود في منطقة الخليج من غير طبقة التجار وأصحاب الياقات البيضاء والفنيين والتقنيين العاملين في صناعة النفط. حيث أدى توسع النشاط الاقتصادي وبالتالي تحسن المداخيل إلى تسابق الهنود للوصول إلى سواحل الخليج للعمل كخدم وباعة وسواقين وخياطين وحلاقين وطباخين وندلاء، علاقات طالت المطبخ والأزياء وتأثر المطبخ الخليجي المتواضع في مكوناته بالمطبخ الهندي المتنوع والثري سواء من جهة تنوع أطباقه أو المواد المستخدمة في إعداد تلك الأطباق. فصارت الأطباق الهندية بمسمياتها من «برياني ودال وسمبوسة» أطباقاً خليجية، وصارت التوابل الهندية والأرز البسمتي مواد رئيسية في كل ما يُطبخ داخل المنازل الخليجية. وامتد التأثير الهندي إلى الأثاث والمفارش والوسائد وقطع الديكور المستخدمة في البيوت والغرف والمجالس الخليجية. وفي هذا السياق تحديداً يمكن الإشارة إلى أسرّة النوم ذات الأعمدة النحاسية رمّانية الشكل، والمساند المزينة بتطريزات ونقوش يدوية هندية. حيث نجدها تشتمل على مفردات تشير بطريقة أو بأخرى إلى الهند كبلد أو إلى بضائعها أو حيواناتها أو أطباقها أو وحدات عملتها. ولم تَسلم الموسيقا والفنون الغنائية الخليجية من التأثيرات الهندية، حيث نجد في الألحان الخليجية نفساً واضحاً للأنغام والإيقاعات الهندية الراقصة. أضف إلى ذلك أن بومباي لعبت في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات دور القاهرة في ما بعد كوجهة لتسجيل الأغاني الخليجية على أسطوانات، بسبب امتلاكها استديوهات التسجيل ومعامل نسخ الأسطوانات بأشكالها الصلبة القديمة. «بمبي» كمجتمع تهفو إليه قلوب الخليجيين إن كانت ثمة مدن قد عشقها الرعيل الخليجي الأول، فإن بومباي أو ما كان يسمونه في لهجتهم الدارجة «بمبي» هي سيدة هذه المدن. وكانوا هم من جانبهم -إذا ما أفاء الله عليهم بالرزق الوفير- لا يبخلون في الإنفاق على الهنود، بناءً للجوامع والمدارس وبيوت الضيافة ودور الأيتام ومعاهد تعليم العربية. وهذا تحديداً ما قام به كبار تجار اللؤلؤ والسلع الأخرى من الخليجيين ممن أثروا من وراء التجارة مع الهند والهنود من أمثال آل البسام وآل القاضي وآل القصيبي وآل الفوزان وآل الفضل من نجد، إضافة إلى الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني المؤسس الحقيقي لدولة قطر، والمرحوم محمد فاروق وأخيه محمد صديق ابني محمد عقيل وهما من «بستك» في بلاد فارس وعملا في تجارة اللؤلؤ في «بمبي» ودبي وكان لهما محل في باريس. وإحداها تحمل اسم «محطة منزل جاسم» نسبةً إلى جاسم الإبراهيم الذي تولى منذ عام 1908 إدارة أملاك عائلته في «بمبي»، واعتبروها كباريس ولندن وجنيف عند جيل اليوم. مفردات هندية في الخليج كان من الطبيعي في ظل الأدوار الهندية أن تتجاوز التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للهند على عرب الخليج المظاهرَ والشكليات إلى ما هو أبعد وأعمق بكثير. ويمكن تصنيف المفردات الخليجية ذات الأصل الهندي في مجموعات. فمنها ما يتعلق بمنتجات كانت تَرِد حصرياً من الهند، فكانت تسوّق بأسمائها الهندية لعدم سابق معرفة المجتمع الخليجي بها، ومنها ما يطلق على المهن والخدمات التي كان الوافدون الهنود يقومون بها دون غيرهم، ومنها ما يتعلق باستخدامات الروبية الهندية، أو أدوات وزن وتثمين وتصنيف اللؤلؤ.