دَأَبَ الإنْسانُ عَبْرَ مَسيرَةِ تَطَوُّرِهِ الحَضارِيِّ عَلى السَّعْيِ لِتَوْفيرِ سُبُلِ الرّاحَةِ وَالأَمانِ في وَسائلِ النَّقلِ وَالمُواصَلاتِ؛ وَنافَسَ بَعْضُ الدُّوَلِ وَالشَّرِكاتِ بَعْضَها الآخَرَ في سَبيلِ تَحْديثِها، وَارْتاحَ الإنْسانُ أَكْثَرَ في وَسيلَةِ النَّقْلِ الّتي يَسْتَقِلُّها، خاصَّةً بَعْدَ تَزْويدِها بمُبتَكَراتِ التِّكْنولوجيا، وَمَظاهرِ الرّفاهِيَةِ الّتي جَعَلَتْ مِنَ المَرْكَبَةِ واحَةَ اسْتِجْمامٍ مُتَنَقِّلَةً. إِلّا أَنَّ الإنْسانَ لَمْ يَتَمكَّنْ بَعْدُ مِنَ الحَدِّ مِنْ دَوْرِ هذا الأُسْطولِ البَرِّيّ في إزهاقِ الأَرْواحِ، وإلْحاقِ الإصاباتِ الجَسَديَّةِ المُتنوّعَةِ، بِسَببِ حوادِثِ السَّيْرِ اليَوميَّةِ الّتي تَقُضُّ مَضاجِعَ كثيرينَ، وَتَسْلُبُ البَسْمَةَ عَنْ شِفاهِ آلافِ البَشَرِ، وَتَحْرِمُ آلافاً آخرينَ الحَياةَ؛ لِتُشَكِّلَ سَيْفاً آخَرَ مُسَلَّطاً عَلى الرِّقابِ، مَتى تَكونُ المَرْكَبَةُ مَوئِلَ راحَةٍ للإِنْسانِ؟ وَمَتى تَكونُ مِعْوَلَ قَتْلٍ لَهُ، وَبِالنَّظَرِ إِلى الظُّروفِ المَوْضوعِيَّةِ الّتي يَعيشُها وَطَنُنا فِلَسْطينُ، وَرَغْمَ الجُهودِ الكَبيرَةِ الّتي تُبْذَلُ لِمُكافَحَةِ هذِهِ الآفَةِ، إلّا أَنَّ الإِحْصاءاتِ الأَخيرَةَ تُشيرُ إِلى أَنَّ مِئَتَيْنِ وَواحِداً وَأَرْبَعينَ فِلَسْطينيّاً قَدْ تُوفّوا خِلالَ العامِ أَلْفَيْنِ وَسِتَّةَ عَشَرَ لِلْميلادِ، نَتيجَةَ عَشَرَةِ آلافِ حادِثِ دَهْسٍ، وَقَعَتْ عَلى شَوارِعِنا خِلالَ هذا العامِ، بِزِيادَةٍ كَبيرَةٍ عَنِ الأَعْوامِ السّابِقَةِ، وَخَلَّفَتْ إِضافَةً لِذلِكَ آلافَ الجَرْحى، وَمِئاتِ المُعاقينَ الَّذينَ يَحْتاجونَ إِلى رِعايَةٍ طَويلَةِ الأَمَدِ. إنَّ الزّيادَةَ المُطّرِدَةَ في عَدَدِ المَرْكَباتِ في فِلَسْطينَ وَتَنَوُّعِها، وَازْدِيادِ أَعْدادِ المَرْكَباتِ الفَرْديَّةِ كَالدّراجاتِ النّاريةِ، الّتي تَستقبِلُ هذا الأُسْطولَ البَرِّيَّ المُتَعاظِمَ سَواءٌ بِالنّسْبَةِ للشَّوارِعِ، وَلَمْ يُواكِبْهُ الْتزامٌ بالثّقافَةِ وَالوَعْيِ المُرورِيَّيْنِ، وأَصْبَحَ الإِنْسانُ هُوَ الجاني والضّحيّةُ في آنٍ واحدٍ، إِمّا نَتيجَةً لفُقْدانِهِ الأَهْليَّةَ القانونِيَّةَ لِلْقِيادَةِ، وَاسْتِخْدامِهِم للهَواتِفِ النّقّالَةِ خِلالَ القِيادَةِ، وَإشاراتِ المُرورِ الّتي تَضْمَنُ انْسِيابيّةً سَلِسَةً آمِنةً للمَرْكَباتِ عَلى الشّوارِعِ الخارِجيّةِ وَالدّاخِلِيَّةِ. وهِيَ بالتّالي المُتَسَبِّبُ الأكبرُ بِهذِهِ الحَوادِثِ المُروريَّةِ، فَإِنَّ مَسْؤوليَّةً عَظيمةً تَقَعُ عَلى عاتِقِ الشّبابِ في الحَدِّ مِنْ هذِهِ الحَوادِثِ، وتَقليلِ الأَضْرارِ النّاتِجَةِ عَنْها؛ إِذْ يَجِبُ الْتِزامُ سُبُلِ الوِقايَةِ مِنَ الحَوادِثِ قَبْلَ وُقوعِها، عَمَلاً بالحِكْمَةِ القائِلَةِ: (دِرْهَمُ وِقايَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِنْطارِ عِلاجٍ)، وَلا بُدَّ في سَبيلِ ذلكَ مِنَ التّأكُّدِ مِنْ صَلاحِيَةِ المَرْكَبَةِ ميكانيكِيّاً، وَأهْلِيَّتِها لِلسَّيْرِ عَلى الشّوارِعِ، وَحِيازَتِها لِلْأَوْراقِ الثُّبوتِيَّةِ السَّليمَةِ قَبْلَ رُكوبِها، وَحِيازَةِ السّائِقِ لِرُخْصَةٍ تُؤَهِّلُهُ لِقيادَةِ المَرْكَبَةِ، بَعْدَ خُضوعِهِ لِلتّدْريبِ المُناسِبِ، وَيَبْقى عَلى السّائِقِ التّأَكُّدُ مِنْ وَضْعِ حِزامِ الأَمانِ لَهُ وَلِلرُّكّابِ مَعَهُ، وَالحِفاظُ عَلى القَوانينِ وَالأَنْظِمَةِ المُروريَّةِ، فَقَدْ قيلَ: (أَنْ تَخْسَرَ دَقيقَةً مِنْ حَياتِكَ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَخْسَرَ حَياتَكَ في دَقيقَةٍ). كَما أَنَّ عَلى السّائقينَ تَمَثُّلَ أَخْلاقيّاتِ القِيادَةِ، فَهِيَ فَنٌّ وَذَوْقٌ وَأَخْلاقٌ، وَتَتحَمَّلُ الأُسْرَةُ كَذلِكَ قِسْطاً كَبيراً مَنَ المَسْؤولِيَّةِ، مِنْ خِلالِ عَدَمِ السّماحِ للأَبْناءِ باقْتِناءِ المَرْكَباتِ غَيْرِ القانونِيَّةِ أَوْ قِيادَتِها، وَعَدَمِ السّماحِ لَهُم بِتَجاوُزِ السُّرْعَةِ المَسْموحِ بِها، حَتّى لَو كانوا حاصِلينَ عَلى التّراخيصِ اللّازِمَةِ لِلْقِيادَةِ. مَسْؤولِيَّةَ رَفْعِ الوَعْيِ المُروريِّ لَدى السّابِلَةِ وَالسّائقينَ. وَتَبْقى الإِشارَةُ إِلى ضَرورَةِ تَطْبيقِ القَوانينِ وَالعُقوباتِ الرّادِعَةِ مِنَ الجِهازِ القَضائِيِّ بِحَقِّ المُخالِفينَ، والمُتَسَبِّبينَ بِهذِهِ الحَوادِثِ، الّتي يَرْقى كَثيرٌ مِنْها إِلى مُسْتَوى الجَرائِمِ المُتَعَمَّدَةِ؛ وحَمَلَهُ طَيْشُهُ عَلى الاسْتِخْفافِ بِكُلِّ الْقَواعِدِ وَالضّوابِطِ الأَخْلاقِيَّةِ، جَعَلَ هَدْمَ الكَعْبَةِ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ إِزْهاقِها، وَلْتَكُنْ مَرْكَباتُنا آلَةَ بِناءٍ وَطَنِيٍّ وَإِنْسانِيٍّ، تَحْمِلُنا إِلى شاطِئ الأَمانِ لا إِلى ضِفافِ الحُزْنِ وَالأَلَمِ وَالحِرْمانِ.