كان موقعها مسكونًا ومأهولا قبل قرون من ظهور الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وفيها قامت مجتمعات وعاشت شعوب نطقت بلغات وطقوس اجتماعية ودينية مختلفة. لكن ترتبط مركزية المدينة الموقع، إلى درجة كبرى بصلتها بالأديان الثلاثة اليهودية أولا، بوصفها مدينة وفضاءً اجتماعيًا ثقافيا واقتصاديًا أيضًا، سابقة على علاقتها بهذه الأديان التي ارتبطت المدينة بها كونها موجودة مدينةً أولًا، قبل أن تكون موقعا دينيًا، دخلت المدينة العصر الحديث حين طرد العثمانيون المماليك منها في العقد الثاني من القرن السادس عشر. وتوالى على حكمها سلالات وسلطنات حاكمة سابقة على المماليك، وفي فترة الصليبيين لتلحق بسلطنة المماليك في مصر والشام حتى مجيء السلطنة العثمانية. باعتبارها مدينة هي أولا وأخيرًا مكان مأهول ذو مجتمع وسكان وثقافة وعادات وتقاليد، لكن المدينة ارتبطت بالنسبة إلى المناطق الأخرى من العالم، والذي هو تعبير عن علاقة ما بدين ما؛ إذ حج إلى القدس على مر القرون، أفراد وجماعات تنتمي إلى الأديان الثلاثة، جاءت من قريب ومن بعيد لزيارتها وتأدية طقوس دينية خاصة مرتبطة بجماعة ما. فهي لليهودية عاصمة الملك داود، وللمسيحية مدينة عاش فيها المسيح وصلب، قدموا إلى المدينة بحثًا عن معان خاصة بهم، لكن الحج إلى موقع مقدس ليس مرهونا باعتبار الموقع مدينة، المقصود مما سبق هو تأكيد أن ما جعل القدس مدينة ليس أهميتها الدينية، حتى إن ساهمت الرمزية الدينية على نحو ما في ذلك، إنما لكونها بلدًا يعيش فيه شعب يمارس حياته الاجتماعية والاقتصادية أولا وقبل كل شيء. فإن ادّعاء ملكية المدينة على أسس دينية ليس له أساس في العالم المادي الواقعي، بقدر ما له علاقة بانتماء سكانها وحقوقهم وملكيتهم وانتمائهم إلى المدينة والقومية التي ينتمون إليها. يستند الخطاب الصهيوني نحو القدس إلى ادعاء ديني صرف على الأقل بقدر ما يرتبط بالشعارات المستخدمة، وليس بالرغبة الاستعمارية تجاه عموم فلسطين، يمكن أيضًا القول إن جزءًا من الخطاب العربي تجاه القدس لا يختلف في جوهره عندما تختزل قضية المدينة واحتلالها بالقول إنها وقف إسلامي، لا يجوز التخلي عنها المدينة هي مدينة أبنائها، أساسًا، تحتكرها استنادًا إلى غيبيات دينية ورمزية تدّعي الحق في استعمار المدينة وعموم فلسطين، وبناء عليه، وكي يُوطّد مثل هذا المفهوم، بمعنى آخر، لم يأتِ الخطاب التاريخي الصهيوني من فراغ، بقدر ما استند إلى معارف سابقة مهيمنة ومعروفة حتى قبل تشكّل الفكرة الصهيونية ذاتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ وفي القرن التاسع عشر، نشطت الحركات المسيحانية الإنجيلية في تشكيل مخيلة تربط اليهود بالقدس، وإن كان مثل هذا الربط لا يتوافق تماما مع النمط الصهيوني اليهودي المعاصر الذي قصر استخدامه للمخيلة الدينية على التوراة وكتب الأنبياء اليهودية دون غيرها. التي تبحث في تمثيل القدس في الصور الفوتوغرافية المبكرة، إلى مفهومي المخيلة التاريخية الذي ناقشه عدد من المؤرخين النقديين، ربما أهمهم هايدن وايت وإلى فكرة الذاكرة الجمعية التي قدمها لنا باعتبارها مفهومًا، عالم الاجتماع الفرنسي موريس هلبواش ، في سياق المجتمع، وتؤثر في صياغة الذاكرة الفردية لأعضاء الجماعة المحددة. وليست اختراعًا كاملًا، بقدر ما هي طريقة لرؤية العالم وتَخَيُّل المجموعة لذاتها، أو الذاكرة المسيحية أو الإسلامية، ولا تُساهم الذاكرة الجمعية في تشكيل مفاهيم عامة بشأن الماضي فحسب، بل تتعداها أيضًا لتُشكّل تزمينًا تاريخيًا يعتمد عناصر من الذاكرة باعتبارها محطات أساسية في السرد التاريخي للجماعة. وسنزوّد هذه الدراسة بأمثلة بشأن هذا الموضوع، فعلى المؤرخ أن يتخيل الماضي بتفصيلات غير متوافرة أمامه، قبل أن يدرس حدثًا ماضيا بعينه. واستخدمه أيضًا هايدن وايت للإشارة إلى كيفية دراسة التاريخ عند مؤرخي القرن التاسع عشر وفلاسفته؛ إذ اعتبر طرائق تفكيرهم في الماضي تستند إلى مخيال بحثي لديهم تشكّل على نحو تراكمي عبر الزمن. تسعى هذه الدراسة أيضًا، باعتباره نظامًا معرفيا ومخيّلةً أوروبية للمشرق في كتابه المعروف الاستشراق ، في تقبل الخطاب الصهيوني أوروبيًا، أو حتى استخدمت من الحركة الصهيونية ذاتها لتقديم مخيلة عن القدس تستثني الفلسطيني منها وتقتلعه من تاريخ مدينته على مستوى الوعي، هو أحد الاختراعات الحديثة التي رأت النور في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وتصادف أن مخترعين عدة توصلوا إلى نتيجة واحدة، وسُخّر لاستخدامات أوروبية، لا شك في ذلك، وارتبط بالوضع الأوروبي في عصر رواج الفكر الاستعماري تجاه باقي أنحاء العالم خارج غرب القارة. أي في العام نفسه الذي أعلن في باريس عن أول اختراع للتصوير الفوتوغرافي، وهو النوع الذي استخدم في أولى صور القدس. استقبل الاختراع الفوتوغرافي عالميًا باعتباره معجزةً كبرى مهمة في توثيق الواقع كما هو، فوصف عضو المحكمة العليا الأميركية أوليفر ويندال هولمز، لذا، نستطيع السفر إلى كل بلدان العالم من دون التحرك من مكاننا. بكلّ ما يحمله ذلك الماضي من تفصيلات لحظية لم تنجح اللوحات الزيتية، ولا الذاكرة البشرية في نقلها من قبل. سواء أكان الماضي الفردي أم الجماعي التاريخي العام، وفي الإمكان التشكيك فيه، ليس عبر التلاعب بالصور من خلال عملية الطباعة أو القص والإضافة وهو ما عرف بـ "الفوتوماج"، فضلا عن أن الصور غالبًا ما ظهرت مرتبطة بأوصاف تفسيرية تعكس رؤية المصور أو المستخدم، تضع الصورة في العادة في سياق سرد محدد. سرعان ما تكتسب الصورة التي تبدأ، من خلال علاقة ثنائية، طرفاها المصور والموضوع، تاركة المصور ونياته خارج إطار المعادلة كليا. في هذا السياق، تظهر لنا مراجعة الكم الهائل لصور القدس المنتجة في القرن التاسع عشر أن تشكل عدد من المعاني والدلالات الناجمة ليس فقط عن عمل المصور بذاته، بل أيضًا عن استخداماتها عبر توزيعها باعتبارها سلعة أو عملا فنيا. وبعد الاطلاع على كم كبير من الصور التي التقطتها عدسات المصورين الأوروبيين، ويرتبط التماثل في هذه الحالة بحالات نمطية من ناحية الموضوع والمخيال وأشكال التقاط الصور. ولعجزي عن إيجاد الكلمة العربية الملائمة لما أعنيه هنا بالحالات النمطية، فسأصفها بأنها طرائق تمثيل المكان في الصورة. وفيما يلي سننظر إلى عدد من الصور المختارة للقدس، أعتبرها نماذج لمثل هذه الأنماط التمثيلية للمدينة. رابعا: أنماط تمثيل القدس في الصور المبكرة لنبدأ بالنمط الأول، تحديدًا، على هذا الجانب؛ وكانت الصورة للمصور فريدريك غوبل فيسكه، وهي مفقودة، وتظهر الصورة القدس من الشرق، وتظهر فيها قبة الصخرة بوضوح. وهي صور للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة. وصوّر المواقع نفسها، إضافة إلى ذلك، أسوار القدس وأسواقها. كون أولئك المصورين لم يكونوا مسلمين، أو حتى مهتمين بالتراث الإسلامي تحديدًا، إذ عادةً ما كان يتوجه المصورون إلى مصر وفلسطين، وأحيانًا إلى إسطنبول خلال الزيارة نفسها، ولم تكن عادةً لمواقع دينية، وقد يكون سبب اختيار المواقع تاريخيًا، يتعلق بالتراث الأثري في المنطقة، وهذا بالتأكيد سبب عند بعض المصوّرين، لكن يضيف الوصف الذي قدمه المصورون سببًا آخر، يتعلق بالمخيّلة التاريخية والذاكرة الجمعية الأوروبية، أسس عليه مسجدًا حمل اسمه وهو للمناسبة ليس موقع قبة الصخرة، والأوروبي خصوصًا في حالتنا هذه السبب في اختيار قبة الصخرة موضوعًا للصور الأولى؛ مقارنة بها. وقد يكون أيضًا لاعتقاد المصورين الخاطئ أن ما هو أمامهم لا بد من أن يكون مسجد عمر، ولعل الوصف الآخر لقبة الصخرة وباحة الحرم القدسي الذي ظهر في صور عدة لاحقة (ينظر مثلا : الصورة ، باعتبار المكان موقع هيكل سليمان، هو الأكثر دلالة على مخيال المصورين أو توقعاتهم لرغبات زبائنه من القدرة على رؤية موقع سمي هيكل سليمان العمارة يعتقد أنها كانت في القدس قبل ما يقارب ثلاثة آلاف عام، وعدم القدرة على رؤية ما هو ماثل أمامهم، أي قبة الصخرة التي يعود بناؤها إلى نهاية القرن السابع الميلادي، حتى كنيسة القيامة، لا يبدو أنها حظيت بمكانة قبة الصخرة من ناحية عدد الصور التي التقطت لها. وخصوصًا في تشكيل مخيلتنا التاريخية الخاصة بنا لطوبوغرافية القدس في القرن التاسع عشر. تقريبًا، خالية من السكان، سواء كانوا بائعين أم مصلين أم عابري سبيل، فكيف لا نرى مصلين في محيط المسجد الأقصى، وبات يحتاج، إلى ما يقل عن ست ثوانٍ. نجد أن بعض المصورين الذين زاروا الشرق والتقطوا صورًا في أماكن مختلفة، أظهروا القدس خالية، وخير مثال على ذلك هو المصور الفرنسي مكسيم دو كامب الذي على الرغم من استخدامه طريقة مبكرة، تتطلّب وقتًا طويلا نسبيا في تعرض ورق " النيغاتيف" للمشهد الماثل أمام الكاميرا، فإنه أصر على أن يضع شخصا في صوره في مصر أمام المعالم الأثرية لإظهار عظمة أحجامها قياسًا على حجم الشخص الظاهر في الصورة. لا يمكن أن نعزو غياب الفلسطيني عن صور بلده وحيّزه الاجتماعي إلى أسباب تقنية فحسب، وخصوصًا أن طرائق التصوير الفوتوغرافي اللاحقة كانت تُمكّن المصور من التقاط ما يريده؛ بل تعبير عن مخيلة المصورين الأوروبيين التاريخية، عمومًا، غيابًا عن الصور الفوتوغرافية غير البانورامية، حيث هناك عدد من الأمثلة عن صور ظهر فيها أناس في القدس، لكن ليسوا بوصفهم ممثلين لحياة مجتمعهم الاجتماعية والثقافية، فضلا عن الصور المصممة خصوصًا لتوضيح فكرة توراتية أو إنجيلية ما، وفي درجة أقل مسلمون، في صور أستوديو، معبرين عن الجماعة التي يمثلونها، سواء أكانت الجماعة دينية أم طائفة محدَّدة نُسِبوا إليها. وراجت هذه الصور في زمن متأخر نسبيًا، بعد أن فتح مصورون أوروبيون أقاموا في الشرق محترفات تصوير في المنطقة. لدى المصور بونفيس، على سبيل المثال، عدد من الصور لرجال وصفوا بأنهم القادة الدينيون في القدس، ومنهم بطريركيا الروم الأرثوذكس والموارنة وحاخام المدينة الأكبر. وفي الإستوديو نفسه، بصفته حلّاج قطن في القدس، ويظهر من رقم التصنيف المتسلسل الذي استخدمه المصور للصورة، حيث تحمل الصورة الأولى رقم 632، والثانية 635. أما منصب بطريرك القدس الماروني الذي يظهر في صور دوماس، لكن ليسوا بوصفهم أبناء المدينة، بل نماذج للشخصيات الإنجيلية أو التوراتية. تُظهر أفرادًا في القدس وفي بيت لحم والناصرة، إما بصفتهم نماذج مباشرةً لقصص دينية، وإما أن الصور تستحضر السرد الإنجيلي. فهناك عدد من الصور التي وزّعت تجاريًا عبر شركات أميركية، تستخدم تقنية "الإستيريوسكوب" أي التقنية التي تستخدم الصورة نفسها مع فوارق بسيطة، أو اثنتان جالستان أمام مغارة، ويظهر عادة في خلف الصور التي من هذا النوع وصف للمشهد وإشارة إلى النص الإنجيلي الذي تستحضره الصورة. يظهر فيها حجاج في مناسبات دينية، في مواقع إنجيلية أو توراتية، باعتبارها مثلا عن عدد الحجاج الكبير أمام كنيسة القيامة في أسبوع عيد الفصح، كما تصفه التفسيرات الظاهرة على سطح الصور. وكذلك الأمر، فإن أغلب المصورين في القرن التاسع عشر حرصوا على تصوير مرضى البرص تذكيرا بالنص الإنجيلي الذي وصف قدرة المسيح على شفاء هذا المرض. خاتمة وليس غرض هذه الدراسة إجراء مسح شامل لكل الصور، تشير إلى طبيعة المخيلة الأوروبية للقدس، التي محت الفلسطيني المقدسي من مدينته. فإنه لم يظهر بصفته جزءًا من الطوبوغرافيا الاجتماعية للمدينة، بل استدعاء لذاكرة جماعية دينية. بمعنى آخر، بل موقعًا دينيًا شديد الارتباط بالتاريخ والذاكرة الجمعية الأوروبية. والنتيجة أن الصور ربما تكون قد أدّت دورًا في تشكيل مخيلة استعمارية ترى فلسطين أرضًا بلا شعب، حتى قبل أن تطلق الحركة الصهيونية هذا الشعار بعقود وبالطبع ليس المقصود بذلك أن المصوّرين كانوا صهاينة بالمعنى الحديث للمصطلح، بقدر ما يشير إلى غياب الوعي الأوروبي حول سكان الأرض المقدسة، كما هي الحال مع وثيقة أرثر بلفور (تشرين الثاني/ نوفمبر (1917) المعروفة بالوعد الذي تحدث عن الحق القومي لليهود والحقوق الدينية لغير اليهود، من دون ذكرهم بالاسم، فإننا نجد الصور نفسها تُستخدم حتى يومنا هذا في سياق النشاط الصهيوني المسيحي، وأحد الأمثلة نجده في استخدام الصورة (11) الفلاح فلسطيني يحرث الأرض، باعتبارها للقاضي شمغار الذي، وكأن التصوير الفوتوغرافي كان موجودًا آنذاك. في حياتهم العادية، هي عملية تشييء أو تصنيم للفلسطيني عبر نزع صفته الشخصية عنه بوصفه موضوعًا للصورة وتحويله إلى آخر يرتبط بمخيلة ليست مُخيّلة الفلسطيني، وليس جزءًا من المشهد الاجتماعي للبلد أو المدينة. والمقصود بالصنمية هنا النظر إلى شيء ما أو موضوع ما باعتباره تجسيدا لموضوع آخر. على الرغم من استخدامات الصور الواسعة وانتشارها عبر وسائل الاتصال والصحافة والشبكة العنكبوتية، وليس عبر إعادة تعريف الصور القديمة - وهو شائع في المتاحف الإسرائيلية ومواقع الإنترنت - فحسب، في مناسبات سياسية إسرائيلية، مثل ذكرى احتلال المدينة في عام 1967 - ويسمّونها ذكرى توحيد المدينة - أو في مناسبات دينية يهودية ترتبط بالمدينة أو ما يسمى احتفال أضواء القدس . وبالطبع تحتفي الصور المستخدمة في هذه الحالة كلها، تمثيل القدس في وقتنا الراهن في سياق الخطاب الصهيوني ليس في لب موضوع هذه الدراسة، لكن ما أشرنا إليه سابقًا يُعاد إنتاجه بصورة أقبح في السرد البصري الصهيوني المتخفي. واعترفت الولايات المتحدة بذلك حديثًا، فإن الاسم المعتمد إسرائيليا وحتى عالميًا في أيامنا هذه هو جبل الهيكل، يمكننا أن نستنتج أن صور القدس المُبكرة أظهرت اهتمام الأوروبيين بالمدينة على نحو كبير، لكن ليس بسكانها بما هم عليه؛ فهي مدينة التوراة والإنجيل، وليست مدينة من فيها الذين وإن ظهروا في الصور، فظهورهم عابر، مثلما هم بالنسبة إلى المخيلة الأوروبية، عابرون على المدينة ليسوا أكثر من بدو رحل استقروا في مدينة ليست لهم، وهذا ربما يعكس ما أشار إليه بشارة دوماني أنه كلما ازداد الاهتمام بفلسطين، قل الاهتمام بالفلسطينيين، وكأن الموضوعين منفصلان،