الخميس ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤ بقلم الشهيد غسان كنفاني دون اسم [2] ويبدو الآن بعيداً كأنه لم يكن طوال العمر إلا واحداً من هذه الأحلام العظيمة التي تظلّ مع المرء وكأنها جزء منه، تكبير النصتصغير النصنص فقط وقد فعلت شيئاً حسناً حين أنكرته لأنك أنقذت الكثيرين من رفاقه. ويأخذ الدنانير الخمسة ويعود إلى أريحا [7] وقد قال لها ذات يوم: "الختيار. هل ما زال حيّاً؟" وحين قالت له "لا" أجابها "هل تقبلينني اباً. وقف أبو القاسم مستشعراً الألم في خاصرته من طول الانحناء وكانت باقة الزهر الأحمر قد أصبحت كبيرة وبدت في يده الخشنة شعلة من اللهب، وقرر أن يبادرها بالجملة ذاتها التي بادرته بها حين زارته لأول مرة [8] في أريحا، آخر شيء يذكره أبو القاسم من عالمه القديم كان ذلك السلم الطويل الخشن الذي يوصل إلى بيت سعاد، أكثر من أي شيء آخر: لقد صعد درجات السلم ذلك الصباح دون أن يراوده أي شك بأنه سيعود فينزلها كما صعدها، إلا أنه فوجئ بقبضة قوية تعضّ كتفه، وفتح أبو القاسم فمه دون أن ينوي قول شيء معين، حين قبضت يد الجندي بشدّة على زنده ورفع يده بعنف إلى فوق. ولم تتمزق وسط ذلك العراك الأحمق الذي يجري دون هدف معيّن. وساعده الجندي الآخر في صلبه أمام الجدار بذراعيه المفتوحين إلى أقصى ما يستطيع، وسحبها بما يشبه الاحتفال المنظّم على الطاولة الرخامية [10] ووقف يتأمّلها لحظة، ـ كما ترى، برقوق نيسان. وابتسم ابتسامة خبيثة ونظر من طرف عينيه إلى الجنديين، ـ إنني أسألك للمرة الأخيرة. وتساءل إن كان يتعين عليه الآن مرة أخرى أن يدخل الغرفة الثانية وينظر إليها ممددة على السرير وراحة يدها مفرودة الأصابع بالقوة وملطّخة بالدم. ـ ماذا يمكن أن يكون هذا يا سيدي غير زهر البرقوق الذي تفتح هذا الصباح على قارعة الطريق. ـ تهزّ كتفيك وكأنك بريء. ! أتريد أن أساعدك قليلاً. ـ استغفر الله . ـ عشيق العفريتة التي تسكن هنا. إلا أن صورة قاسم جاءت عاصفة مثل الارتطام، محتاراً تحت النظرات التي كان يسلّطها عليه، ؟ هل هي بخير. وبدت أقل جمالاً مما كانت، ـ مذا يمكن للزهر أن يعني يا سيدي غير الودّ. ـ من الذي طلب منك أن تقطفها. ـ ما هي علاقتك بسعاد إذن. وعاد فضحك من جديد لفترة قصيرة وصمت حين رمقه الضابط [12] بشدّة، ؟ أصار بوسعه أن يقول لهم بأن ذلك الفتى المضرّج الممدد على الطاولة في مخفر أريحا هو ابنه قاسم. معلّقة في كلمة واحدة قد يلفظها في أية لحظة دون أن يدري، وهي لا تعني شيئاً خطيراً على الإطلاق. قلت لنفسي وأنا أمرّ من هنا: هذا بيت صديقي القديم، ـ زهر يا سيدي. وأن الفخ المنصوب في الغرفة إنما يتعلّق بقضية أكثر خطراً مما يعتقد، وأرغماه على رفع ذراعيه إلى الأعلى ووجهه نحو الجدار، وعاد الجنديان فوضعا الأوراق التي انتزعاها من جيوبه على الطاولة، هذه الملعونة سعاد كانت تعيش تحت بصرنا ونحن لا نعرف، وها هم أفراد العصابة يتقاطرون إلى بيتها واحداً إثر الآخر. وأجاب الرجل الجديد ووجهه ما يزال إلى الحائط: خبزنا صباح اليوم صدراً من الكنافة، كعادتنا في الحيّ بعثنا مع وليد صحناً لسعاد. وعندما تأخر وليد جئت أبحث عنه. ؟ أيمكن أن يكون زياد هذا والد أو شقيق فتى ما استشهد ذات يوم وهو يأتي كل شهر لسعاد كي يأخذ خمسة دنانير. ـ هل تعرف أياً من هؤلاء. ولكن العادات يا سيدي تقتضي منا أن نرسل مثل هذه الهدايا الصغيرة إلى جيراننا. ؟ هل أمسكتموها. ولذلك أرسلت لها صحن الكنافة. ـ أتعتقد أنها ستعود إلى هنا. ـ سعاد طبعاً أيها الغبي. وكل إنسان يعود إلى بيته. ـ إلا إذا استطاع الهرب قبل ذلك. " [14] وأحس أبو القاسم بكنز غامض يملأ صدره، وهو بلا ريب يلعب فيها دوراً كبيراً دون أن يعرف على وجه التحديد ما هو دوره هذا، ؟ إنني في وضع أكثر سوءاً من وضعك. ـ ولماذا تكون باقة الزهر أكثر براءة من صحن الكنافة. وقال زياد بلهجة ضارعة، ولمح أبو القاسم مرة أخرى تلك الرسالة الغامضة تومض كالبرق في عينيّ زياد وهما تطلان عليه وكأنهما تعبران به، ـ "إن قصتك لم تنته أيها الشيخ الخبيث، التحقيق سينظر في أمر إطلاق سراحكم أو اعتقالكم، والآن لا أريد أن أسمع صوتاً. ـ ألا نستطيع أن نرسل كلمة إلى أهالينا. ـ قلت لكم أن تصمتوا. ألا تسمحون له بالذهاب إلى بيتي ليطمئن زوجتي، غير قادر على فهم ما يجري على وجه التحديد، وقد استطاع أن يلتقط للمرة الثانية اسم "طلال"، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يفهم ماذا يعني هذا كله، مستعيداً في ذاكرته صورة طلال القديمة، الذي صار يراه لماماً منذ أن تسلمته سعاد. إنه يدرك أن زياداً يريد أن يقول شيئاً عن طلال، ؟ وما علاقته هو بالأمر. ؟ لقد تذكر الآن أنه مرة سأل سعاد إن كان طلال يعمل معهم. فضحكت وقالت: "لولا طلال لكانت حالتنا حالة. وهو وحده الذي يجيب على هذه الأسئلة، فلماذا لا يقدم الأستاذ زياد على التصرّف. ؟ وفجأة سأل أبو القاسم نفسه: لو كان قاسم هنا مكان الأستاذ زياد، ؟ ثم عاد فسأل نفسه مرة أخرى: لو كان مكاني، وكان يمكن لهذا الصوت أن يعبر دون انتباه لو لم يتحرك الضابط بهدوء، ويرفع سلاحه عن ركبتيه وهو ينظر نحو الجنديين اللذين اتجها نحو الباب دون أن يصدرا أي صوت، ومضت فترة من الوقت خيم فيها صمت عميق، ثم صدر ذلك الصوت المكتوم لخطوة خائفة مرة أخرى، ودون أن يتخذ قراره بصورة مسبقة، وانقض عليه الضابط وصفعه بقفا كفّه فألقاه على الأرض، كان فمه ينزف خيطاً رفيعاً من الدم يتسرب في شعر لحيته الشائب، ـ لقد تعمدت ذلك أيها الثعلب العجوز. ـ تعمدت ماذا يا سيدي. ـ لقد صرخت كي يهرب. ! كنت على وشك أن أعتقد أنك عجوز بريء. لم أكن على خطأ حين شككت بهذه الباقة اللعينة. ثم أخذ ينقلها كمؤشر بين زياد وأبي القاسم. ؟ كنت أنت الذي اقترحت أن نطلق سراح هذا الشيخ الخبيث لأنه يبدو بريئاً. إنه يعتقد الآن أنه أتاح فرصة الفرار لأحدكم. ! سننتزع اسمه مثلما ينتزع الضرس النتن. ولكن إذا سمحت لي أرجو ألا تقلق كثيراً، جاء يسأل عنه وخاف عندما سمع الجلبة فهرب. ألم أقل لك يا سيدي قبل ذلك إن طلال ينتظر وليد ليلعب معه. وهزّ الضابط رأسه مرتاباً وهو يبتسم ابتسامة العارف الذي لا يسهل خداعه، ـ لم تكن الخطوة خطوة طفل. بقلم الشهيد غسان كنفاني