مستعرضًا طبائعه وما ينطوي عليه من سلبيات تؤدي إلى خوف المسْتَبِدّ وإلى استيلاء الجُبْن على رعيّته، إلى جانب انعكاسات الاستبداد على جميع نواحي الحياة الإنسانية، بما فيها الدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والترقّي والتربية والعُمْران. ومن خلال التساؤلات يشرح ما الاستبداد؟ وما صفات المسْتَبِدّ؟ ومن هم أعوان المسْتَبِدّ؟ وما علاقة الاستبداد بالدين والمال والعلم والأخلاق؟ وهل يمكن أن يتحمل الإنسان ذلك الاستبداد؟ وبالتالي كيف يكون الخلاص منه؟ وما هو البديل عنه؟ الاستبدادُ لغةً هو غرور المرء برأيه، والتكبر عن قبول النّصيحة، ويُراد بالاستبداد عند إطلاقِهِ استبداد الحكومات خاصّةً؛ لأنَّ الاشتراك في الرّأي لا يدفع الاستبداد، وإنَّما تغير نوعه، وقد يكون عند الاتّفاق أضرّ من استبداد الفرد، ويشمل أيضًا حكومة مقسّمة ليس لأحد فيها كل القوى كاملة وإنما يمتلك جزءُ منها التشريع ويكون له السلطة على الجزء المسؤول عن التنفيذ. وأشدّ مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشّيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، الحائز على سلطة دينية، ولنا أنْ نقول أنَّه كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف، خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقَّت المسئول فعلًا، وقلَّ الارتباط بالأملاك ورؤوس الأموال حاكمًا ورعية، وكلّما ازداد الشّعب معرفةً. ولذلك على الرعيّة أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، نعم، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء: بعدل أو ظلم؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟ والرعيّة العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد وتقف حائلة بينه وبين ظلمه، لتأمن من بطشه. والبعض يقول: “إنْ لم يكنْ هناك توليد فهما أخوان، أبوهما التَّغلب، أو هما صِنْوان قويّان، بينهما رابطة الحاجة على التّعاون لتذليل الإنسان “، وهذه الحال هي التي سهَّلت في الأمم الغابرة المنحطَّة ادِّعاء بعض المسْتَبِدّين الألوهية على مراتب مختلفة، حسب استعداد أذهان الرعيّة، حتَّي يُقال: “إنَّه ما من مسْتَبِدّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد: تفريق الأمم إلى مذاهب وشِيَع متناحرة تقاوم بعضها بعضًا؛ فتنهار قوَّة الأمّة ويذهب ريحها؛ فيخلو الجوّ للاستبداد ليقوى ويستفحل. وهذه سياسة الإنجليز في المستعمرات، لا يُؤيِّدها شيء مثل انقسام الأهالي على أنفسهم، وعلماء الاستبداد جعلوا للفظة العدل معنىً عُرفيًّا، وهو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء، حتى أصبحت لفظة العدل لا تدلُّ على غير هذا المعنى، مع أنّ العدل لغةً هو التسوية. فالعدل بين النّاس هو التّسوية بينهم، وقد عدّد الفقهاء من لا تُقبَل شهادتهم لسقوط عدالتهم؛ ولكن ما عذرهم في تغيير معنى الآية: “ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ” إلى أنّ هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين؟ كذلك ما عُذر الصوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياهم يقولون: “لا يكون الأمير الأعظم إلا وليًّا من أولياء الله، لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب، حيثُ أرسل لهم رسولًا من أنفسهم أسّس لهم أفضل حكومة أُسِّسَت في النّاس، جعل قاعدتها قوله: “كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته “، إلى أنَّ المسلم راعٍ على عائلته ومسئولٌ عنها فقط. كما حرَّفوا معنى الآية: “والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعض” وفسّروها على ولاية الشهادة في القضاء وغير دون الولاية العامة وهي تولّي كافة شئون المسلمين. وبدَّلوا الدِّين، وفي النصرانية واليهودية، علماء الاستبداد حرّفوا الدين لخدمة المسْتَبِدّ. وتتولّد جميعها من غرض واحد هو المراد؛ ألا وهو الاستعباد. فهو يتصرّف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضعافًا قاصرين. كذلك ليس من غرض المسْتَبِدّ أن تتنوّر الرعيّة بالعلم؛ يولّد في النفوس حرارةً، والمسْتَبِدّ يخاف من هؤلاء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظاتٌ كثيرة كأنّها مكتبات مقفلة. فلا بدَّ للمسْتَبِدّ من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علمًا. وهذه طبيعة كلِّ المتكبرين، بل في غالب الناس، لذلك تجدهم يمدحون كلِّ من يكون مسكينًا خاملًا لا يُرجي لخيرٍ ولا لشرٍّ. والعلماء الحكماء -الذين يترعرعون أحيانًا في تحت ظروف الاستبداد -يسعون جاهدين في تنوير أفكار النّاس. فالسعيد منهم من يتمكّن من مهاجرة دياره، وأكثر العلماء الأعلام والأدباء والنبلاء تركوا بلادهم وماتوا غرباء. ويجتهد المسْتَبِدّ في إطفاء نورها. 4) من هم العوامّ؟ وما أهمية تخويفهم؟ ومتى قالوا فعلوا. العوام هم قوّة المسْتَبِدّ وغذاؤه اللذان يحيا بهما. يأسرهم فيفرحون لقوّته، ويغتصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيمدحون رِفْعته، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه خائفين من التوبيخ، فإذا ذهب الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف. لأنه على الدوام مكروه، محاط بالأخطار، غير مطمئن على رياسته، بل وعلى حياته ساعة من نهار؛ لأنَّ الواقف بين يديه مهما كان عاقلًا متينًا، لا بدَّ أن يخشى استبداده وظلمه؛ فيضطرب باله ويتشوش فكره ويختلّ رأيه؛ فلا يهتدي إلى الصواب، فلا يعارضه ولا يناقشه. وكلُّ مستشارٍ يدَّعي أنَّه لا يخاف فهو كذَّاب. بل يعيش في ضلال وتردّدٍ وعذابٍ وخوف، وهذا هو انتقام الله منه على استعباده النّاس وقد خلقهم ربهم أحرارًا. إنَّ خوف المسْتَبِدّ من غضب رعيّته أكثر من خوفهم من بطشه؛ لأنَّ خوفه ناتج عن علمه بما يستحقُّه، وخوفهم نتيجة الجهل، وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفه على كلِّ شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياةٍ تعيسة فقط. ويقول أهل النظر: “إنَّ خير ما يُستَدَلُّ به على درجة استبداد الحكومات، وهذه التمويهات يلجأ إليها المسْتَبِدّ كما يلجأ قليل الشرف للتكبُّر، وقليل العلم للتصوُّف، وقليل المال لزينة اللباس. 5) المسْتَبِدّ الأصغر الحكومة المسْتَبِدّة تكون طبعًا مسْتَبِدّة في كل فروعها من المسْتَبِدّ الأعظم، إلى الشرطي، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كلُّ صنفٍ إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا؛ لأن الأسافل لا يهمّهم طبعًا الكرامة وحسن السمعة، وبهذا يأمنهم المسْتَبِدّ ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وكلما كان المسْتَبِدّ حريصًا على الشدة، واحتاج إلى مزيد من الدقة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدينٍ أو ذمّة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعًا وخصالًا أعلاهم وظيفةً وقربًا. ولهذا، ثم من دونه لؤمًا، بناءً عليه؛ فالمسْتَبِدّ لا يأمن على بابه إلا من يثق أنَّه أظلم منه للناس، كذلك القائد يحمل سيف المسْتَبِدّ ليضعه في الرقاب بأمر المسْتَبِدّ، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، أما ديني وشرفي فالمال المال المال “، وعرضةً أيضًا لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين المنتشرين في ظلِّ أمان الإدارة الاستبدادية، لأنَّ ظهور أثره على صاحبه يجلب أنواع البلاء عليه؛ ولذلك يُضطر الناس في زمن الاستبداد إلى إخفاء نعمة الله والتّظاهر بالفقر؛ ومن طبائع الاستبداد أنَّ الأغنياء أعداؤه في الفكر ومعاونوه في الأفعال؛ ويسترضيهم فيحنّون؛ يقصد بذلك أن يغتصب أيضًا قلوبهم التي لا يملكون غيرها، والفقراء كذلك يخافونه خوف ضعف ونذالة، خوفًا من العقاب؛ 7) الاستبداد والأخلاق الأخلاق أثمار بذروها الوراثة، وسُقياها العلم، والقائمون عليها هم رجال الحكومة؛ وقد يمسي فقيرًا فيكون جبانًا خسيسًا. فهو يتبعها بلا هدف، لوّامًا نفسه على إهماله شئونه، شاعرًا بضعف همَّته ونقص شهامته. ويبقى طول عمره جاهلًا سبب هذا الخلل في شخصيته؛ ويتَّهم تارةً دينه، والحقيقة بعيدة عن كلِّ ذلك، 8) صفات الأحرار الحرّ أمينٌ على السلامة في جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عنه بكلِّ قوتها في سكنه وسفره، بدون أن يشعر بثقل قيامها عليه؛ لا إحاطة السور يتخبّط فيه كيفما التفت أو مشى. وهو أمينٌ على الملذَّات الجسمية والفكرية المتعلِّقة بالترويضات الجسمية والنظرية والعقلية؛ قد وُجِدت كلُّها لأجل ملذّاته، فهو بهذا النظر والاعتبار لا ينقص عن أغنى الناس سعادةً. كأنَّه خُلِق وحده على سطح هذه الأرض؛ أمينٌ على العدل كأنَّه الممسك على ميزان الحقوق؛ 9) قواعد مقاومة الاستبداد القاعدة الأولى: الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة. تصير كالبهائم أو أقل من البهائم، ولا تعرف للاستقلال قيمة، ولكن طلبًا للانتقام من شخصه لا طلبًا للخلاص من الاستبداد؛ فلا تستفيد شيئًا، إنما تستبدل مرضًا بمرض؛ وقد تقاوم المسْتَبِدّ بسَوْق مسْتَبِدّ آخر ترى فيه أنَّه أقوى شوكةً من المسْتَبِدّ الأول؛ فلا تهتمُّ بحفظها ولا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي استبدادٍ مشوَّش أشدُّ وطأةً كالمريض إذا انتكس؛ لأنَّ الثورة – غالبًا – تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها؛ القاعدة الثانية: الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة، إنما يُقاوم باللين، فالوسيلة الوحيدة الفعّالة للقضاء على الاستبداد هي ترقّي الأمَّة في الإدراك والإحساس، ثمَّ إنَّ اقتناع الفكر العام ورضاه بغير ما اعتاد عليه، لا يتأتَّي إلا في زمنٍ طويل. والاستبداد لا ينبغي أن يُقاوَم بالعنف، كي لا تنتج فتنة تحصد الناس حصدًا. نعم،