تحتفظ الطبيعة بصورة عامة والصحراء بصفة خاصة بطرق ووسائل الكتمان في غاية البراعة والابداع للاحتفاظ بأسرارها وابقائها مكنونة طيوهذه قصة أحد الأسرار التي كانت ستظل بالفعل طي الغياهب والكتمان لولا القيام ببعض أعمال التنقيب عن الآثار المضنية التي حظيت بكل الدعم والمساندة من جانب صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الامارات العربية المتحدة وحاكم أبوظبي. انها قصة بعض الخبراء المتسلحين بالايمان والصبر والمثابرة والمهارة ممن ذهبوا بثاقب نظرهم وعظيم دابهم الى ما هو أبعد من الواجهة الحديثة المدينة مزدهرة من مدن القرن العشرين ليغوصوا في أعماق التاريخ ويتوصلوا الى اكتشاف ماض عريق المدينة العين لا يقل روعة وازدهاراً عن المكانة الحاضرة لهذه المدينة الزاهرة. وقد كان السر الذي توصلوا الى اكتشافه يتمثل في أن مدينة العين قبل اكتشاف النفط بامارة أبوظبي قد كانت حاضرة لصناعة رئيسية تعمل على انتاج معدن من أثمن وأنفس المعادن التي عرفها الانسان في ذلك العصر - ألا وهو "النحاس". ويعمل هذا الكتيب على تتبع قصة التاريخ الرائع لصناعة تعدين النحاس في العين بعد أن ظلت هذه القصة دون رواية حتى الآن. وتصل قصة تعدين النحاس الى ذروتها مع وصول الاسلام الى المنطقة حين جرى احياء تلك الصناعة وبعثها من جديد بعد ألف سنة من الركود الذي ران عليها كما تم رفع مستواها لتصبح صناعة مجدية ومربحة للغاية. ان نشوء العين كمركز لانتاج النحاس قبل خمسة آلاف سنة واندثارها قبل ألف سنة قد أصبح الآن جزءاً لا يتجزأ من تاريخها ولا يقل في أهميته عن المكانة المرموقة التي أصبحت تفخر بها هذه المدينة كجزء من احدى أكبر الدول المنتجة للنفط في القرن العشرين فان العين بالأمس قد كانت بالفعل ظاهرة فائقة الروعة أيضاً البدايات الأولىفي غمرة الزحام والنشاط للحياة اليومية المعاصرة في أبوظبي من الصعب على المرء أن يتصور نشوء وازدهار مجتمعات متكاملة كانت تعيش وتعمل في العين على بعد 160 كيلومتراً فقط في مجال تعدين واستخراج النحاس من الطبقات الأرضية الغنية بخامات ذلك المعدن في الأماكن المحيطة بمنازلهم. وقد تم التوصل إلى الدلائل الأولى على وجود عمال النحاس وعائلاتهم في الماضي من خلال أعمال التنقيب عن الآثار في أضرحة المقابر القديمة عند سفوح جبل حفيت بمدينة العين. كما تم اكتشاف المئات من هذه القبور في الطرف الشمالي من جبل حفيت وعلى امتداد التلال القائمة على سفوحه الشرقية. والى جان بقايا لبي تمكن الت ومما لا وكان اس النحاس وعمان الجيوعلماء الآثار من متحف العين أثناء تنقيبهم بأحد الأضرحة عند سفح جبل حفيت بالعين. ومن خلال تحديد تاريخ الأواني الفخارية والنحاسية المكتشفة في تلك الأضرحة واستخدام الأساليب الدقيقة لتحديد عمر ذرات الكربون في عينات الفحم التي تم العثور عليها هناك. تمكن علماء الآثار من تقدير عمر تلك الأضرحة بما ينوف على خمسة آلاف سنة. وقد تم العثور على قطع صغيرة مما يعتقد أنه كأس أو سوار نحاس وبعد اجراء الفحوص والتحاليل الدقيقة عليها، عثر علماء الآثار مؤخراً على ما يعتقد أنه بقايا لبيت من تلك الفترة مما أعطى العلماء بعداً إضافياً لتصور كيفية تمكن الناس القدامى من انتاج النحاس بكميات مجدية. وقد اتجه عمال التعدين الى سلاسل الجبال الممتدة بين العين وعمان لاستخراج النحاس الذي كانوا يحتاجون اليه في صناعتهم من الجيوب الغنية بخامات ذلك المعدن في تلك المنطقة. اكتشاف ما يعتقد علماء الآثار بأنه بقايا لبيت قديم مما مكن العلماء من اعادة تشكيل نمط الحياة الذي كان سائداً في العين قبل 5000 سنة. وكان الآباء والابناء يحفرون بايديهم بحثاً عن خامات النحاس داخل مناجم مكشوفة على شكل خنادق عند سفوح الجبال. منجم مفتوح على شكل خندق. فانه يتعين تسخين خامات النحاس المكسرة الى مستوى 1200 درجة مئوية مما يعد عملاً صعباً وغير عادي في تلك الايام قبل ظهور المصاهر الحديثة. ومن أجل صهر مجرد كيلوغرام واحد من خامات النحاس، ولذلك فان استخراج النحاس كان يتوقف على عاملين أولهما وفرة الخامات الغنية بمعدن النحاس وثانيهما وجود مصدر غني بالاخشاب الصنع الفحم المستخدم في أعمال الصهر. وربما كان الحصول على مصدر ثابت للأخشاب لصنع الفحم المستخدم في الصهر يمثل مشكلة أصعب من عملية الحصول على خامات النحاس نفسها. الأواني الفخارية المصنوعة في بلاد ما بين النهرين والمكتشفة في أضرحة جبل حفيت بالعين. فقد استنتج علماء الآثار أن الناس في تلك الفترة لابد وأن كانوا من القبائل الرحل التي كانت تتنقل هنا وهناك طلباً للأخشاب المأخوذة من شجر السنط أو اللبان العربي المألوفة بالمنطقة لصنع الفحم اللازم الأعمال صهر النحاس. وربما كانت المياه تمثل مشكلة أخرى ومن المحتمل أيضاً أن أولئك الناس الرحل كانوا يحضرون موتاهم لدفنهم عند سفوح جبل حفيت كتقليد اجتماعي أو ديني. ولكن من الواضح لدينا الآن أن أولئك الناس كانوا يحرصون على ايداع عدد من الأواني الفخارية المستوردة والأدوات النحاسية المصنوعة محليا الى جانب موتاهم عند دفنهم في تلك المقابر. ومع أن علماء الآثار لم يتوصلوا حتى الآن الى اكتشاف أي دليل مباشر على حقيقة القيام بصهر خامات النحاس بمنطقة جبل حفيت، فان المكتشفات من هذه الأدوات النحاسية التي أمكن العثور عليها في القبور هناك تدل دلالة قاطعة على أن أؤلئك الناس قد كانت تتوفر لديهم المعرفة الفنية لصهر النحاس إبان تلك الفترة قبل خمسة آلاف سنة. فانه يتولد عن ذلك مادة النحاس المصهورة. ويستدل عمال الصهر من لون الغازات المتصاعدة من النار فيما اذا كانت درجة الحرارة والجو في مستويات وأوضاع ملائمة لاتمام عملية الصهر. وكانت عمليات الصهر شاقة ومضنية كما كانت كل عملية تستغرق قرابة 6 أو 7 ساعات. فان الفرن يترك كي يبرد ثم يصار بعد ذلك الى رفع كتل النحاس الخام المتشكلة في قعر الموقد. ومع أن مهام التعدين عن الخامات المعدنية الغنية بالنحاس وبقية أعمال الصهر اللازمة للحصول على النحاس نفسه كانت تتطلب جهودا صهر النحاس باستخدام أكبار من الجلود. الا أنها كانت تستحق كل ذلك العناء والجهود المبذولة في سبيلها. وكان يجري تصدير النحاس الى عدة أماكن تجارية على سواحل الخليج عن طريق جزيرة أم النار القائمة على بعد عدة كيلو مترات فقط من جزيرة أبوظبي والتي يعتقد علماء الآثار بأنها قد كانت ميناء رائجا و مزدهرا قبل زهاء 4500 سنة. وكان التجار يفدون إلى هنا من بلاد ما بين النهرين دجلة والفرات - اليوم لشراء النحاس القيم وبيع ما يجلبونه معهم من أدوات فخارية وحلي، وقد تم العثور في القبور القائمة عند سفوح جبل حفيت على عينات من تلك الأدوات والحلي المصنوعة في بلاد ما بين النهرين وكانت السهول الخصبة المحاطة بنهري دجلة والفرات تمثل السوق الرئيسية الصادرات النحاس من العين وذلك لأن بلاد ما بين النهرين على الرغم من تقدمها في الحضارة آنذاك فانها قد كانت بحاجة الى استيراد كميات من المعادن والحجارة والأخشاب. وقد مكنت سوق النحاس هذه عمال التعدين وعائلاتهم في الجبال المحيطة بالعين من الاستمتاع بالحياة وان كانت تلك المهنة قاسية عليهم بعض الشيء. وحيث أن انتاج النحاس كان يتم بمعدلات قليلة نسبيا، فانه يبدو من غير المرجح أن معامل صهر النحاس لم تؤدي الى تدمير الغابات المحيطة من جراء امداد تلك المصاهر بالوقود اللازم لها. آثار نحاسية من أضرحة جبل حفيت بالعين. العصر البرونزيكانت الحقبة الأثرية التالية التي أصبحت فيها منطقة العين مركزا هاما الصناعة النحاس قبل فترة 4000 سنة تقريبا. ويستدل من الحفريات الأثرية التي أجريت مؤخراً بمنطقة الهيلي في العين بما لا يدع مجالا للشك على حقيقة صهر وسكب النحاس في المنطقة. فقد تم العثور على شظايا من قوالب وبواتق كانت تستخدم في عملية السكب بالاضافة الى نفايات معدنية وبقايا من جدران موقد مما يدل دلالة قاطعة على وجود مشغل قديم للنحاس هناك بثلاثة مصاهر على الأقل. ويمكن الربط جغرافيا بين منقطة التعدين هذه وبين المواقع الاثرية في النحاس في العين. حدائق الهيلي مما يشكل الدلالة المباشرة الأولى على القيام باعمال سكبوقد عثر أحد المزارعين بمحض الصدفة على قبر قديم بمنطقة القطارة في العين أثناء قيامة بتسوية مزرعته بجرافة. تمكن أخصائيو الآثار بمتحف العين من العثور على عدد وفير من الخناجر والسيوف المصنوعة من النحاس الخالص أو المخلوط مع معادن أخرى. وقد ثبت علمياً أن تاريخ هذه المكتشفات الرئيسية يعود الى نحو أربعة آلاف سنة كما تبين من تحليل مكونات تلك الأسلحة وجود تركيزات من "النيكل" في السبائك النحاسية للحصول على "البرونز" مما يمثل قفزة نوعية كبيرة في تلك الصناعة. وقد تم العثور في المواقع الأثرية لبلاد ما بين النهرين على نماذج مماثلة لأنواع الخناجر والسيوف المكتشفة في منطقة العين. وبالمقارنة فان وجود تركيزات قليلة من النيكل في السبائك البرونزية يستدل منه على القيام بصهر النحاس من الخامات كما أن النحاسين القدامى في العين قد استخدموا نفس السبائك المعدنية والأساليب الفنية المعروفة قديما لانتاج أسلحة تضاهي في جودتها أفضل ما تم العثور عليه من تلك الأسلحة القديمة في أي مكان آخر بالعالم. ويرجع الفضل في سد تلك الثغرة الى اكتشاف قرية يعود تاريخها إلى العصر الحديدي" في موقع لا يبعد سوى أقل من كيلومترين من حدائق الهيلي مما أمد علماء الآثار في متحف العين بالحلقة المفقودة من التسلسل الزمني وأكد النظرية القائلة بأن أعمال تعدين وصهر النحاس قد استمرت في الرواج والازدهار في المنطقة طوال فترة العصر الحديدي بعدمرور ألفي سنة على بداية مزاولتها في أطراف جبل حفيت. وقد اكتشف علماء الآثار هذه القرية عام 1976 وبدأوا في تشكيل صورة عن الطريقة التي كان يعيش فيها أهل المنطقة قبل ٣٠٠٠ سنة. وكانت مهنة الزراعة وحرفة التعدين عن النحاس تشكلان بالنسبة لسكان تلك القرية أهم مصدرين رئيسين للثروة كما كانتا مرتبطتين بنظام الأفلاج للري الذي يعتمد على جر المياه الجوفية من الينابيع في الجبال الى مناطق السهول الغنية بالأتربة الصالحة للزراعة. وينطبق ذلك على أغلب مناطق الخليج حيث ظلت الأدوات والسبائك النحاسية تشكل الغالبية العظمى من المكتشفات الأثرية التي يعود تاريخها إلى تلك الحقبة. صهر النحاس باستخدام الأكبار المنتفخة وقد جرى استخدام تلك الأكيار بصورة مزدوجة وكانت تدار بالأقدام لزيادة ضغط الهواء داخل المصهر. وعلى النقيض من أسلافهم، وكان ذلك يتطلب اعادة صهر السبائك النحاسية لحرق الشوائب العالقة فيها مثل أكسيد الحديد. وكانت المحصلة لذلك انتاج نحاس بنوعية أفضل لصنع مواد أكثر جودة مع أن من المرجح أنه لم تتم تنقية سوى كميات قليلة من النحاس الخام المستخرج من تلك القرية في حين أن أغلب الكميات المنتجة كانت تأخذ طريقها عبر الممرات التجارية القديمة انطلاقا من ميناء «أم النار» الى بلاد ما بين النهرين أو الى الأسواق المستجدة فيما بعد في بلاد الهند عند نشوء الامبراطورية الآشورية. وكانت تنقية النحاس عملية صعبة وشاقة كما هو الحال في عملية صهر خاماته الأولية. تشكل الفقاقيع الهوائية في المنتجات النهائية. كان الطلب على الفحم يزداد أيضاً. وقد ظلت صناعة النحاس رائجة ومزدهرة في العين لمدة خمسمائة عام ولكنها توقفت بعد ذلك بصورة مفاجئة. ولكن الذي حصل بالضبط لايزال لغزا محيراً للعلماء والمؤرخين. وربما كان السبب في ذلك راجعاً الى خلل واضطراب في نظام الري بالأفلاج الذي كان قائما هناك أو الى تغير في الأنماط التجارية مع احتمال الافراط في الانتاج الزائد من النحاس مما أدى الى وضع ضغط هائل على الامدادات المحلية من الأخشاب وربما كان النقص في مواد الوقود عاملاً حاسماً في التدهور الاقتصادي الذي شهدته المنطقة آنذاك. فانهم بلا شك مخطئون في ذلك الظن. وقد اكتشف علماء الآثار صنوفاً عديدة من المواقد الاسلامية المشادة على سفوح التلال هناك مما يدل على حصول ثورة صناعية كبرى عمت سائر أرجاء المنطقة. وكان انتاج النحاس يجري هناك على نطاق واسع كما أن امكانية التقاط النحاس وخبث المعادن بصورة متوالية من خلال الفتحة الصغيرة المثقوبة في أسفل الموقد، قد مكنت من استمرار عملية الصهر نفسها ليلاً ونهاراً دون توقف. ومن المقدر أن كل فرن من تلك الأفران الكبيرة كان يستهلك زهاء ثلاثين كيلو غراماً من الفحم النباتي مقابل كل كيلو غرام واحد يتم صهره من النحاس الخام. فقد سارت تلك المهنة قدماً وازدادت قوة وازدهاراً مع مرور الزمن. الانحدار والاندثاريبدو أن من المفارقات الغريبة ومن سخرية الأقدار العجيبة أن السر في قصة نجاح وازدهار صناعة النحاس في العين كان هو نفس السبب الكامن وراء انهيار تلك الصناعة واندثارها عندما نضب معين النحاس الخام من المنطقة. كانت النتيجة لذلك محتومة. فقد استنزفت الطبقات الحاوية للنحاس الى درجة النضوب من ذلك المعدن وتوقفت بعدها أعمال التعدين وتحولت على أثرها المستوطنات والقرى إلى أماكن أخرى وأخذت المنطقة في الانزلاق مع تدهور الاقتصاد وأقول نجم الازدهار فيها. لقد عاش عمال المناجم في العين أيامهم المجيدة وفي الأخير شاءت الأقدار أن تصل تلك الصناعة الى نهايتها وأن تندتر تلك التجارة الزاهرة التي راجت لفترات طويلة مع بلاد ما بين النهرين واقليم وادي نهر الاندوز جنوب آسيا وعملت على جلب ثروات طائلة على مدى قرون عديدة الى المنطقة الممتدة بين العين في دولة الإمارات العربية المتحدة وصحار فيسلطنة عمان