يحتاج مجتمعنا اليوم إلى إعادة عرض السيرة النبوية بأسلوب معاصر يوضح إنسانية محمد صلى الله عليه وسلم الذي تعتبر بعثته أعظم نقطة فاصلة في تاريخ البشرية، وعلى الرغم من كثرة الدعوات التي شهدت الساحة الإسلامية مؤخراً لعرض السيرة النبوية، فإننا لم نرتو بعد بعمل شامل يخرج عن التناول التاريخي او النصوصي، ليقدم لنا سيرة محمد الذي هو '' قرآن يمشي على الأرض''· وهو اهتمام نبينا الكريم بالبيئة ودعوته إلى الحفاظ عليها وحمايتها من التلوث والتعامل الراشد مع المصادر الطبيعية، ونأمل أن نفتح بذلك باباً لعرض معاصر للسيرة النبوية يبرز للناس إنسانية المصطفى - صلى الله عليه وسلم ـ الذي جاء رحمة للعالمين· وتوافق مختلف الشعوب والثقافات على ضرورة الاهتمام بها والحفاظ عليها، فهي أحد مجالات الاهتمام المشترك بيننا وبين غيرنا من ثم يمكن من خلالها تقديم رؤية الإسلام تجاه قضايا عالمية بشكل يبرز تميز الإسلام وعالميته في تناول قضايا الإنسان في كل مكان· فعلى الرعم من أن محمد صلى الله عليه وسلم عاش في مجتمع بدائي صحراوي، لم يشهد مشكلات تذكر في مجال البيئة، فإن المصطفى - صلى الله عليه وسلم- يجسد في حياته وسيرته منهجاً شاملاً للحفاظ على البيئة، وحمايتها من التلوث، وهذا أحد جوانب عظمته وبعد نظره، إذ انه لفت أنظار البشرية كلها إلى مخاطر لم ينتبه إليها العالم إلا في العصر الراهن· وقدم حلولاً منذ ما يزيد على ألف و400 سنة، بدأ العالم المعاصر اليوم يأخذ بها· عبر دعوة الناس إلى المحافظة على المصادر الطبيعية من خلال التعامل الراشد معها بعيداً عن الإسراف أو الإفساد فى الأرض ويتضمن هذا المنهج آليات ذاتية للحفاظ على البيئة· ويقدم المصطفى للبشرية في حياته وسيرته الشخصية نموذجاً يحتذى به في الحفاظ على المصادر الطبيعية باعتبارها ملكاً للناس أجمعين وينهى عن استنزافها أو التبذير في استهلاكها· ويرتبط بالغاية الأساسية من خلق الإنسان وهي عبادة الله وإعمار الأرض· وفي هذا المنهج فإن الإنسان هو سيد في الكون وليس سيدا للكون ومن ثم ليس له أن يفعل ما يشاء، مناهضا للتلوث بكل أشكاله، يتعامل مع كل مكوناتها من نبات وحيوان وطير برفق وحب، فيعلن عن حبه للجبل قائلاً عن جبل أحد ''هذا جبل يحبنا ونحبه''، رواه البخاري· مفهوم البيئة وقبل أن نعرض للتطبيقات العملية لهذا المنهج، نشير الى مفهوم البيئة والمنظور الإسلامي لها· فيشير الدكتور زين الدين عبدالمقصود في دراسته ''البيئة والإنسان رؤية إسلامية''، هذا المنظور يقوم على أن الله تعالى قد خلق الكون بما فيه ومن فيه من كائنات، التسخير والوسطية وتقوم العلاقة بين الإنسان والبيئة فى هذا المنظور الإسلامى، الذي يجسده المصطفى - صلى الله عليه وسلم- على أساسين: الأول: التسخير: أي تسخير الله تعالى لمكونات البيئة لكى تساعد الانسان على أداء رسالته فى تعمير الأرض· حيث يقول تعالى ''الله الذى خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري فى البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، الآيتان: 23-23 · لكى يستفيد الإنسان من تسخير مكونات البيئة بأسلوب معتدل وبمنهج الوسطية التى يميز الاسلام عن سائر الأديان الأخرى، الذي برر للإنسان الإسراف في تعامله مع البيئة، ورغبته في الهيمنة على الكائنات الموجودة في الكون مما أدى الى آثار سلبية على مختلف مكونات النظام البيئي· - كما يقول عبد الحكم عبداللطيف الصعيدى في دراسته ''البيئة فى الفكر الإنسانى والواقع الإيمانى'' فهو يربط هذه المكونات بالنفس البشرية، وهو ما تنفرد به الحنيفية السمحاء عما سواها من شرائع البشر وقوانينهم الوضعية· كيان حي وتشكل البيئة كما اخبرنا بها المصطفى - صلى الله عليه وسلم- كياناً حياً، ويفعلون على ظهرها ما يشاؤون وليس الجبال مجرد كيانات هامدة وإنما هي كيانات حية لها حس وانفعال خاص فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ''لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة'' - رواه ابن ماجه ومالك فى الموطأ· وهذه الرؤية تستند الى أصول في القرآن الكريم فيقول تعالى: ''تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً'' الاسراء : 44 ويقول أيضاً: ''وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج''- الحج: من الآية 5 وتطالب تعاليم الاسلام التي بلغنا بها المصطفى أن يستثمر المسلم عمره - باعتباره بعداً زمنياً هاماً- فى تعامله مع الأنظمة البيئية من منطلق أنها نعمة كبرى للانسان ودعاه الى النظر فى مكونات البيئة والتأمل فى مخلوقات الله باعتبارها نعمة كبرى للانسان· تشير إلى ذلك العديد من الآيات، فكل مكونات البيئة قد خلقها الله تعالى بمقادير محددة وصفات معينة بحيث تكفل لها القدرة على توفير سبل الحياة الملائمة للإنسان وغيره من الكائنات الحية الأخرى على الأرض·· وبما يكفل لأي مكون أو عنصر من عناصر البيئة أن يؤدي دوره المحدد والمرسوم له في صنع الحياة في توافقية انسجامية غاية في الدقة فخضع كل ما فى الكون لدورة حيوية رسمها الخالق العظيم تتسم بالدقة من خلال سلسلة من عمليات التولد والموت والتحول، وتقوم النباتات باستخلاص المواد الغذائية من التراب لتحولها إلى أوراق وثمار وبذور يعتمد عليها الإنسان والطير والحيوان في غذائه وتستمر عملية الموت والتحول والحياة وفقا لما قدره الخالق عز وجل· فيقول تعالى - ''إنا كل شيء خلقناه بقدر'' سورة القمر: الآية ·49