وأخذت تحتجب وراء السفن الراسية في البحر. وأرسلت خيوطها من وراء تلك السفن لتطرز حواشي السحب، ثم بدأت السحب تشيع الشمس إلى مثواها الأخير باكية، وغابت الشمس وبدأ الليل يرخي سدوله على الكون ويطغى على حمرة الأفق، ولا أسمع شيئاً سوى أصوات الأمواج تتكسر على مقربة مني، مضيفاً جمالاً آخر إلى ساعة الوداع. وجدت نفسي مشدودة إلى شيء مضى. فتسلمت عنان نفسي لأخوض غمار هذه الذكريات المحزنة لعلّي أجد في ذلك سلوى لنفسي المكلومة. قبل عشر سنوات على وجه التحديد اعتدت أن أركب البحر مرافقاً لوالدي الذي كان يجول بسفينته التجارية حول شواطئ إيران والهند وبلاد إفريقيا. وقد أخذت الشمس مكانها في كبد السماء لتلفح وجوه الناس بحميها، أبحرت السفينة من بلدي كما كانت تبحر كل مرة. فك (القلص) وعلى ظهرها ما يربو على خمسة عشر بحاراً ممن وقع عليهم الاختيار بحكم درايتهم بأمور البحر وبمن اتصفوا بالعقل والتفكير وحسن التصرف، أضف إلى ذلك الصداقة التي كانت تجمعهم بأبي. أمَّ أبي البحارة لصلاة العصر ثم مضى كل إلى عمله، وجلست مع أبي نراجع بعض الحسابات الخاصة بالبحارة، وأن يجدني متزوجاً وقد رزقت ببنين وبنات فيعبثون بلحيته البيضاء ويضاحكونه وأعود إليه من البحر مرفوع الرأس ومحملاً بهدايا من الموانئ التي أرسيت فيها سفينتي. وسرقنا الوقت فإذا بنا نشرف على مغيب الشمس، وأدينا فريضة المغرب وجمعنا جميعاً لحفل واحد لتناول طعام العشاء. فقد كان أبي يكره أن يميزه شيء عن سائر البحارة، شيء يدعو إلى التفكير وإلى التأمل في مبدع هذه الأشياء، وسخّر النجوم ليهتدي بها البحار. وطال بي التفكير إلى أن أفقت على صوت السمر الذي شكله البحارة فأبيت إلا أن أشاركهم سمرهم. انتهى دور السمر وبدأ دور تجاذب أطراف الأحاديث الشيقة عن حياتهم الخاصة تارة، مجتمع هؤلاء البحارة على ظهر هذه السفينة. أي ظروف الرحلة هي التي خلقت هذا المجتمع بهذه الصورة. ؟ أم أن هؤلاء البحارة بطبيعتهم هكذا؟ بل ولم نكن نتوقعها. هبت مصحوبة بأمواج كالجبال. وتغير الموقف كلية على ظهر السفينة، لمواجهة الموت، إلى الله. فالرياح تزداد سرعة والأمواج تزداد ارتفاعاً مع كل دقيقة تمضي، وبدأت توجه الضربات إلى صدر السفينة بلا رحمة حتى احمرّ صدرها، وازداد الموقف تعقيداً فالكل ينتابه الخوف والارتباك ومتوجه بتفكيره إلى نهاية هذا المطاف والمصير المنتظر. لكن هيهات. تأرجحت اللعبة يميناً وشمالاً، ودعوت الله، مرحلة الصراع. مرحلة مواجهة الموت وجهاً لوجه مع الأمواج والرياح. فانفضّ الشملّ وأصبح كل منا في مكان ناءٍ لا يعرف عن الآخرين شيئاً، وطالت ساعات الصراع مع الموت وبدوت منهوك القوى ووشيكاً أن تجمد بنت الشفة في فمي لولا رحمة الله الذي استجاب لدعائي في اللحظة الأخيرة، وقضيت أياماً أستعيد فيها صحتي في كنف ذلك الصياد، والسنوات. وأتذكر تلك القصة المؤلمة. الآن سأتركك لأرجع إلى بيتي. في رحاب الله،