المطلب الأول :استحداث الرقمنة في دعم التعليم العالي وتطويره شهد العالم منذ العقود الأخيرة تحولًا جذريًا في مختلف أنماط الحياة، كان أبرز مظاهره بروز الثورة الرقمية التي مست جميع القطاعات الحيوية، وعلى رأسها قطاع التعليم العالي. فقد أضحى من الضروري مواكبة المؤسسات الجامعية لمتطلبات العصر الرقمي ، وذلك من خلال إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال في كافة العمليات التعليمية والإدارية. فالرقمنة لم تعد خيارًا ترفيًا، بل أضحت ركيزة استراتيجية لتحسين جودة التعليم، وتجويد مخرجاته بما يتلاءم مع احتياجات سوق العمل ومتطلبات الاقتصاد القائم على المعرفة . لقد ساهم استحداث الرقمنة في مؤسسات التعليم العالي في إحداث تحول عميق على عدة مستويات، أولها تجاوز القيود الزمنية والمكانية المرتبطة بالنمط التقليدي للتعليم، من خلال منصات تعليمية افتراضية تتيح للطلبة متابعة محاضراتهم عن بعد، وتمنحهم فرصًا للتفاعل والمشاركة النشطة. كما تمكّنت الرقمنة من تقليص الفجوة المعرفية بين الطلبة، عبر تمكينهم من الوصول إلى مصادر تعليمية متعددة ومتنوعة، كالدروس المصورة، والمكتبات الرقمية، وقواعد البيانات المفتوحة². وعلى الصعيد البيداغوجي، أتاحت الرقمنة إمكانية اعتماد طرائق تدريس حديثة، مثل التعلم المدمج (Blended Learning)، والتعليم التكيفي (Adaptive Learning)، مما أفضى إلى تحسين مخرجات التعلم وتحفيز الإبداع والابتكار لدى المتعلمين. كما مكّنت الرقمنة من اعتماد أدوات تحليلية لمتابعة أداء الطلبة، وتقديم تغذية راجعة فورية للأساتذة والإدارة . في هذا السياق، يؤكد العديد من الباحثين أن الرقمنة ساعدت في إعادة بناء العلاقة التربوية بين الأستاذ والطالب، من علاقة أحادية التوجيه إلى علاقة تشاركية، قائمة على الحوار التفاعلي والمقاربة التكوينية . وعلى مستوى التسيير الجامعي، ساهمت الرقمنة في تطوير نماذج الحوكمة الأكاديمية، من خلال نظام التسجيل الإلكتروني، وتتبع المسار البيداغوجي للطلبة، واستحداث المنصات الإدارية الرقمية التي تضمن تسهيل الإجراءات وتقليص البيروقراطية. كما تم إدراج الرقمنة في عملية التقييم الذاتي والجودة، الأمر الذي ساعد الجامعات على تحسين أدائها ومطابقة معايير الاعتماد الوطنية والدولية . وقد فرضت جائحة كورونا تسريع وتيرة رقمنة التعليم، ما جعل العديد من الجامعات تعتمد على منصات رقمية كوسيلة وحيدة لضمان استمرارية العملية التعليمية، الأمر الذي أبرز الحاجة الماسّة إلى تطوير البنية التحتية الرقمية، وتكوين الموارد البشرية القادرة على مواكبة هذا التحول النوعي . وعليه، فإن إدماج الرقمنة في التعليم العالي ليس مجرد توجه تكنولوجي، بل هو استراتيجية متكاملة تهدف إلى تعزيز كفاءة النظام التربوي وتكييفه مع تحديات المستقبل.