قالت بلغني أيها الملك السعيد أن الفارس المجروح قال ل( كان ما كان ) : فخرج على العجوز ومن معها كهرداش، ثم أحاط بهم وهاش وناش، فلم تمض ساعة حتى ربط العشرة العبيد والعجوز وتسلم الحصان وسار به وهو فرحان. فقلت في نفسي : قد ضاع تعبي وما بلغت أربي. ثم صبرت حتى أنظر ما يؤول الأمر إليه، فلما رأت العجوز نفسها في الأسر بكت وقالت لكهرداش : أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام، ماذا تصنع بالعجوز والعبيد وقد بلغت من الحصان ما تريد؟ وخادعته بلين الكلام وحلفت أنها تسوق له الخيل والأنعام، فأطلقها هي والعبيد ثم سار هو وأصحابه وتبعتهم، فلما وجدت إليه سبيلاً سرقته وركبته وأخرجت من مخلاتي سوطاً فضربته، فلما أحسوا بي لحقوني وأحاطوا بي من كل مكان، ورموني بالسهام والسنان وأنا ثابت عليه وهو يقاتل عني بيديه ورجليه، إلى أن خرج بي من بينهم مثل النجم الطارق والسهم الراشق. ولكن لما اشتد الكفاح أصابني بعض الجراح. وقد مضى لي على ظهره ثلاثة أيام لم أطعم بطعام وقد ضعفت مني القوى، وأنت أحسنت إلي وأشفقت علي وأراك عاري الجسد، فماذا يقال لك ؟فقال : أنا يقال لي كان ما كان ابن الملك ضوء المكان ابن الملك عمر النعمان، ثم حدثه بحديثه من أوله إلى آخره. فقال الرجل السلال وقد رق له : إنك ذو حسب عظيم وسوف يكون لك شأن وتصير أفرس فرسان هذا الزمان، فإن قدرت أن تحملني وتركب ورائي وتوصلني إلى بلادي، يكن لك الشرف في الدنيا والأجر في يوم التناد، فإنه لم يبق لي قوة أمسك بها نفسي، وإن مت في الطريق قدرت بهذا الحصان، وأنت أولى به من كل إنسان فقال له كان ما كان : والله لو قدرت أن أحملك على أكتافي لفعلت، لأني من أهل المعروف وأغاثة الملهوف، وفعل الخير لوجه الله تعالى يسد سبعين باباً من البلاء.وعزم على أن يحمله على الحصان ويسير متوكلاً على اللطيف الخبير . فقال : اصبر علي قليلاً. ثم أغمض عينيه وفتح يديه وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، وتهيأ للممات وأنشد هذه الأبيات: وأمضيت عمري بشرب الخمور ، وهدم الطلول بفعل النكور ، وأملت أني أنال المنى ، بذاك الحصان فأعيا مسيري وطول الحياة أسل الخيول ، فكانت وفاني عند القدير ، لرزق الغريب اليتيم الفقيرفلما فرغ من شعره أغمض عينيه، وفتح فاه ، وشهق شهقة ففارق الدنيا. فحفر له (كان ما كان ) حفرة وواراه التراب، ثم مسح وجه الحصان ورآه لا يوجد مثله في حوزة الملك ساسان .ثم أنته الأخبار من التجار بجميع ما جرى في غيبته بين الملك ساسان والوزير دندان، وإن الوزير دندان خرج عن طاعة الملك ساسان هو ونصف العسكر، وطلقوا أنهم ما لهم سلطان إلا ( كان ما كان )واستوثق منهم بالإيمان، ودخل بهم إلى جزائر الهند والبربر وبلاد السودان، واجتمع معهم عساكر مثل البحر الزاخر لا يعرف لهم أول من آخر، وأقسم على أنه لا يرد سيف الحرب إلى غمده حتى يملك ( كان ما كان ) .فلما بلغته هذه الأخبار غرق في بحر الأفكار ثم إن الملك ساسان علم أن الدولة انحرفت عليه الكبار والصغار، فغرق في بحر الهموم والأكدار، وفتح الخزائن وفرق على أرباب الدولة الأموال والنعم، وتمنى أن يقدم عليه (كان ما كان) ويجذب قلبه إليه بالملاطفة والإحسان، ويجعله أميراً على العساكر الذين لم يزالوا تحت طاعته، لتقوى به شرارة جمرته.ثم إن (كان ما كان )لما بلغه ذلك الخبر من التجار رجع مسرعاً إلى بغداد على ظهر ذلك الجواد، فبينما الملك ساسان في كربته حيران، فأخرج جميع العساكر ووجهاء بغداد لملاقاته. فخرج كل من في بغداد و لاقوه، ومشوا قدامه إلى القصر. ودخلت الطواشية بالأخبار إلى أمه، فقال: يا أماه دعيني أمضي إلى عمي السلطان ساسان الذي غمرني بالنعمة والإحسان، ثم إن أرباب الدولة تحيروا في وصف ذلك الحصان إلى وصف صاحبه سيد الفرسان وقالوا للملك ساسان: أيها الملك إننا ما رأينا مثل هذا الإنسان. ثم إن الملك ساسان ذهب وسلم عليه، فلما رآه (كان ما كان ) مقبلاً عليه ، فرحب به وقال: أهلاً وسهلا بولدي ( كان ما كان )، والله لقد ضاقت بي الأرض لأجل غيبتك، وقال له: لو قدر عليه أبوك لاشتراه بألف جواد، ولكن الآن عاد العز إلى أهله، وقد قبلناه ومنا إليك وهيناه،ثم أمر أن يحضروا لـ كان ما كان خلعة سنية وجملة من الخيل، وأفرد له في القصر أكبر الدور، وأقبل عليه العز والسرور، وأعطاه مالاً جزيلاً وأكرمه غاية الإكرام، لأنه كان يخشى عاقبة أمر الوزير دندان .ففرح كان ما كان بذلك وذهب عنه الذل والهوان، ودخل بيته وأقبل على أمه، وقال: يا أمي اذهبي إليها وأقبلي عليها لعلها تجود علي بنظرة. فقالت له : إن المطامع تذل أعناق الرجال، فدع عنك هذا المقال لئلا يفضي بك إلى الوبال، فأنا لا أذهب إليها ولا أدخل بهذا الكلام عليها . فلما سمع من أمه ذلك أخبرها بما قاله السلال من أن العجوز ذات الدواهي طرقت البلاد وعزمت على أن تدخل بغداد، وقال : هي التي قتلت عمي وجدي ولا بد أن أكشف العار وآخذ بالثأر . ثم ترك أمه وأقبل على عجوز عاهرة محتالة ماكرة اسمها سعدانة وشكا إليها حاله وما يجده من حب «قضي فكان»، وسألها أن تتوجه العجوز إليها وتستعطفها عليه. فقالت له العجور: سمعاً وطاعة . ثم فارقته ومضت إلى قصر «قضي فكان» واستعطفت قلبها عليه، ففرح لوعد ابنة عمه «قضي فكان » .فلما جاء نصف الليل أتته في ملاءة سوداء من الحرير، ودخلت عليه ونبهته من نومه، نائم على أحسن حال فانتبه وقال : والله يا منية القلب إني ما نمت إلا طمعاً في أن يزورني منك طيف الخيال. ماجنحت إلى المنام ، في المودة والغرام ، رقدت عيون المستهام . وتعانقا، وتشاكيا ألم الفراق وعظيم الود والاشتياق، ولم يزالا كذلك إلى أن بدت غرة الصباح، وطلع الفجر ولاح. فبكي «كان ما كان» بكاء شديداً وصعد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات :أيا زائري من بعد فرط صدوده ، وفي الثغر منه الدر في نظم عقده ، وبت وخذي لاصق تحت خده ، لي أن بدا نور الصباح فراعنا ، كحد حسام لاح من جوف غمده . ورجعت إلى خدرها، وأظهرت بعض الجواري علی سرها، فذهبت جارية منهم إلى الملك ساسان وأعلمته بالخبر ، فتوجه الى «قضى فكان» ، و أراد أن يضرب عنقها، فدخلت عليه امها «نرهة الزمان» وقالت له : بالله لا تفعل بها ضرراً، فإن «كان ما كان» صاحب عرض و مروءة ولا يفعل أمراً يعاب عليه،فقال لها : لا بد أن أرميه في بلية بحيث لا أرض تقله ولا سماء تظله،