عن النبي ﷺ قال: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينى بِالْجَارِ عَلى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرَتُهُ صدق رسول الله ﷺ. سبق التعريف بها رضي الله عنها في الحديث الرابع (التصوير واتخاذ المساجد على القبور). الجار يطلق على المجاور في الدار ونحوه، واسم الجار يشمل كل جار ، القضية الأولى عناية الإسلام بالجار وضرورة الإحسان إليه عنى الإسلام بالجار والإحسان إليه عناية لم ولن يُعرف لها مثيل في تاريخ البشرية جمعاء، ذلك بأن الإسلام يأمر بالتحاب والتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان. ثم لم يدع فضيلة من الفضائل التي تحقق معنى هذا التعاون إلا دعا إليها وحث عليها. بل لو تحققت هي وحدها لجعلت الأمة كالبناء المرصوص يشد بعضه بعضا. وإذا كان سوء الجوار يدعو إلى الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، يجد أن هذه العناية تمتد فتشمل الإنسانية كلها. فهل يباح للمسلم معاملاتهم ؟ نقول نعم : بل أوجب الإسلام على المسلم أن يحسن معاملتهم ويبرهم ويسوي بينهم وبين إخوانه المسلمين، المسلمين في المجتمع الإسلامي كل محبة من المسلمين. وجار له ثلاثة حقوق . فالجار الذي له ثلاثة حقوق الجار المسلم ذو الرحم، وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك». وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيْهِمَا أَهْدِي ؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا. ومن أشد ما يلفت المسلمين إلى العناية بحقوق الجيران أن النبي ﷺ جعل شهادتهم علامة على الإحسان أو الإساءة لمن أراد أن يعرف منزلته عند الله. فَقَدْ أَسَأْتَ». وقد بلغ من عنايته بالجوار أنه نفي الإيمان مقسما بالله ثلاثا عمن لا يأمن جاره شره وغوائله، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ : مَنْ يا رسولَ اللهِ؟ قَالَ : الَّذي لا يأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . ومن دلائل العناية بالجوار أيضًا، وما أكثرها - اختلاف الأساليب النبوية في الوصية بالجار والحرص عليه فمنها ما جاء في صحيح البخاري: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ، وما جاء في صحيح مسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ» وقوله : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنُ إِلَى جَارِهِ». وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا سِرًّا، وَلَا تُخْرِجُ بِهَا وَلَدَ لِيَغِيظُ بِهَا وَلَدَهُ . حقا: إن هذا الحديث جامع الحقوق الجوار لم يترك صغيرة ولا كبيرة منها أحصاها، تعينه، وإذا ما استنصرك على لص قام بالسطو على بيته فتوليه ظهرك وتدعه فريسة لهذا اللص الخطير، ولا تعطيه، وأن تخص أهلك بالطيبات من الرزق، ولا تبالي به وبأولاده الصغار فلا تشركهم معك. حتى قال مرارًا . فقال الخادم: كم تقول هذا ؟ فقال له : إن رسول الله ﷺ لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه. فتأمل أيها الأخ المسلم الكريم - كيف اعتبر ابن عمر اليهودي جارا ولم يفرق بينه وبين إخوانه في الدين، فأمره أن يبدأ به، ثم ذكر للخادم ما ورد عن النبي ﷺ من التشديد في وجوب مراعاة هذه الآداب الاجتماعية. وقيل المراد أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلـ والأول أرجح. لأن هذا مستمر، ولفظ الحديث مشعر بأن التوريث لم ينفع. موقد نقل ابن حجر في الفتح سبب نزول الحديث فأفاد أنه وقع لعبد الله بن عمر مع رسول الله ﷺ نظير ما وقع لرسول الله ﷺ مع جبريل ولأحمد من حديث رجل من الأنصار. قال: هذا جبريل، القضية الثانية: تحريم إيذاء الجيران حتى جعل هذا الإيذاء مبطلاً للأعمال الصالحة، فقد قبل لرسول الله ﷺ: إِنَّ فُلانَةَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا، فَقَالَ النبي عليه الصلاة والسلام: «هي في النَّارِ». ومن أبلغ ما يؤثر من الزجر عن إيذاء الجار قول النبي ﷺ: «إن أنت رميت كلب جارك فقد آذيته، فأخذ المسلمون الأوائل بهذا الأدب الرفيع وجروا على سنته، فكانوا يتحرجون حتى من مقابلة أذى جيرانهم بمثله. فإن عصى الله فيك فأطع الله فيه. ولم يشر عليه برد السيئة بالسيئة وإنما أمره أن فالجار السوء ينبغي أن لا يقابل بمثل ما يقوم به من أفعال تغضب الله. فإن حدث ذلك كان صدعا في المجتمع الذي ينبغي أن يجتهد المصلحون والمخلصون من أجل حصر الشر في أصغر دائرة، فينصح المجني عليه بالصبر والتحلي بالخلق الإسلامي الرفيع. فقد روى أبو هريرة الله أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ يومًا يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ اذْهَبْ فَاصْبِرْ فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ . وروى الزهري أن رجلاً أتى النبي ﷺ فجعل يشكو جاره، فأمر النبي ﷺ أن ينادي على باب المسجد : ألا إن أربعين دارًا جار قال الزهري: أربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا ، وإنما جعل النبي ﷺ هذا النداء جوابًا على شكوى الرجل لأن فيه إيذانا بخطورة حرمة الجوار حتى إنها لتمتد إلى أربعين دارًا، ومن يكلف بمراعاة حق أربعين لا يجوز له أن يضيق ذرعا بحق واحد. وهذا الضرب في الزجر من أبلغ أساليب التأدير التي لا تؤثر إلا عن النبي . فقال: ما قمت إذن بحرمة ظل داره إن باعها معدما ودفع إليه ابن المقفع ثمن الدار قائلاً له: لا تبعها. وشكا بعضهم كثرة الفأر في داره، فقيل له: لو اقتنيت هرا! فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دور الجيران فأكون قد أحببت لهم ما لا أحب لنفسي. هذا بعض ما يقال في حقوق الجوار في الإسلام. فإذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر لتألم الإنسان حسرة وألما وندامة على ما نراه ونسمعه ونقرأه عن أحوال الجيران. فهم مثال للتناكر والتنابذ والاختلاف وهم قمة في التحاسد والبغضاء والتحاقد والشحناء والتشاجر لأتفه الأسباب. فقد يسكن عشرة أو مائة في عمارة واحدة ولا يعرف بعضهم البعض، وقد تأكل النيران الجار وأولاده وأثاث بيته دون أن يعرف جاره ما حدث له. إذا كان هذا في العمارة الواحدة فما ظنك بمن يسكنون عمارات أخرى أو شارع واحد. وقد نرى ألوانًا كثيرة من الإيذاء كإلقاء القمامات أمام أبواب الجيران وإطلاق العنان للأطفال للعب واللهو حتى لو أدى ذلك إلى إحداث ضوضاء وإزعاج للجيران. ما يستفيده المسلم من معرفته للقضايا الواردة في هذا الحديث بخلاف ما إذا كان في طريق الشر، وفيه جواز الطمع في الفضل إذا توالت النعم،