أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان ، تفتحت عيناه على الحياة في الوقت الذي كانت الدولة الأموية تغمض فيه عينيها ، ولمعت أمام عينيه بغداد التي كانت تتألق بأضوائها ، وشد أبو العتاهية رحاله إلى بغداد، فاتصل بالمهدي ثم بابنه الهادي من بعده . وقد سلك أبو العتاهية في عرض آرائه في مشكلة المصير خطاً منتظماً مستقيما فهو يعرض لكل ما يمكن أن يخطر على ذهن من يبحث في هذه المشكلة : ما الحياة ؟ وما سر حب الإنسان لها على الرغم من فنائها وزوالها ؟ وما الموت ؟ وماذا بعد الموت ؟ ثم ما الوسيلة التي يستطيع الإنسان أن ينجو بها من شقاء الدنيا ليصل إلى السعادة في الأخرة ؟ وما المشكلات التي يقابلها الإنسان في حياته ؟ وما الرأي فيها ؟ وما مشكلة الخير والشر ؟ وما مشكلة الصداقة والصديق ؟ أو - بعبارة أخرى - ما مشكلة هذه الحياة التي نحياها ، والتي ستنفارقها في يوم من الأيام في رحلة طويلة رهيبة تنتهي بنا إلى الجنة أو إلى النار ؟ هذه هي المشاكل التي شغلت ذهن أبي العتاهية وملأت عليه تفكيره ، أراك وإن طلبت بكلّ وجه كحلم النوم أو ظلّ السحاب أو الأمس الذى ولى ذهابا وليس يعود أو لمع الشراب الو ترى الدنيا بعيني بصير إنما الدنيا تحاكي السرابا إنما الدنيا كفى تولى وكما عاينت فيه الضبابا إنما الدنيا غرور كلها مثل لمع الآل في الأرض القفاز والدنيا - في حقيقة أمرها ، وصيحة الفرح بمولود تتفتح عيناه للحياة بصيحة الحزن على ميت يغمض عينيه عنها ، فكرت في الدنيا وجدتها فإذا جميع جديدها يُبلى وإذا جميع أمورها دُوَل بين البرية قلما تبقى ولقد مررت على القبور فما ميّزت بين العبد والمولى ما زالت الدنيا منّغصة لم يُخلَ صاحبها من البلوي دار الفجائع والهموم ودار الـ بؤس والأحزان والشكوى بينا الفتى فيها بمنزلة إذ صار تحت ترابها مُلقي تَقَهُو مساويها محاسَتَها لا شيء بين النعي والبشري ولمّل يوم در شاره إلا سمعتُ بهالك يُنمّي أتراك تخصى مَن رأيت من الـ أحياء ثم رأيتهم مؤتى ومهما تختلف الأيام بالناس فإن النهاية للجميع دائما واحدة ، وأن يفكر فيها أين مضت ؟ وأين انتهى بها المصير ؟ بل حسبه أن يفكر في آبائه وأباء آبائه حتى آدم أين مضوا ؟ وإلى أين انتهت بهم الحياة ؟ : يا نفس أين أبي وأين أبو أبي وأبوه عَدّى لا أبالك واحسبي عَلَى فإني قد نظرت فلم أجد بيني وبين أبيك آدم من أب قد مات ما بين الجنين إلى الرضي ع إلى الفطيم إلى الكبير الأشيب وكما خلقنا من التراب سنصير إلى التراب ، وأهم عمل فني قام به أبو العتاهية في هذا المجال أرجوزته المزدوجة التي سمّاها ذات الأمثال ، ومن الممكن أن نرى في هذه الأرجوزة دستور النفس الخيرَة والحياة الفاضلة يسجل فيه أبو العتاهية كل ما وصل إليه من آراء في النفس والحياة ، وهي تشبه من بعض جوانبها الابتهالات الصوفية التي يناجي بها الصوفية الله . على نحو مانرى في هذه الأبيات : كل امرىء فكما يَدِينَ يُدَانَ سبحان من لم يُخل منه مكانْ سبحان من يُعطى المنى بخواطر في النفس لم ينطق به لسانَ سبحان من لاشيء يجب علمه فالسر أجمع عندة إعلانَ سبحان من هو لايزال مسبحا | أبدا وليس لغيره السُبحان سبحان من تجرى قضاياه على ماشاء منها غائب وعيًان ووصفه ابن قتيبة بأنه « ممن يكاد يكون كلامه كله شعرا ، ومن هنا نستطيع أن نصف العمل الفني عند أبي العتاهية بأنه كان في بعض جوانبه ترجمة شعرية يترجم فيها الشر إلى شعر . فإذا كان موضوع الشعر الزهد - واشعَ الناس به العامة - تحتم على الشاعر أن يجعل من أسلوبه أسلوبا شعبيا قريبا إلى نفوسهم .