ما زالت ترنّ في أُذني صرخات الأم، وأرى الأب متعلقاً كالغريق، والطفلة الصغيرة راقدة على حصير من بذراعي قصب، خرجت مسرعاً لأجدني في غرفة صغيرة، موزعاً بين اليأس والسخط . عندما مرضت والدتي سلامة -رحمها الله اضطررنا إلى استدعاء طبيب إنجليزي من دبي، أمضى وقتاً طويلاً للوصول نظراً إلى عدم وجود طرق للمركبات. لا توجد لدي أية معرفة طبية بحالة الفتاة لكني أيقنت أنها معرّضة للموت إن لم تتلق العلاج على وجه السرعة. أمرتُ الأب: «ارفعها! احملها إلى سيارتي». تمتم: «إلى أين تأخذها، ولولت الأم: «الشارقة ؟ لماذا؟»، «لأنّ أقرب مستشفى يوجد هناك». مائة وخمسون كيلومتراً تفصلنا عن الشارقة، والمستشفى ة المقصود هو مستشفى سارة هوسمان، على اسم الطبيبة النسائية البريطانية التي أسسته منذ عشر سنوات، في الخمسينيات بإيعاز من الشيخ صقر بن سلطان القاسمي. هناك سيكون الأطباء قادرين على علاجها. لفت الفتاة بغطاء، ومدّدت على المقعد الخلفي للاندروفر. كانت حُزمة الضوء المرتعشة الصادرة عن مصابيح السيارة تكتسح الكثبان وتضفي على الليل إحساساً بالوحدة هائلاً. شعرت كما لم أشعر من قبل بما للصحراء من حضور كُلّي، ساحر وقادر على سلب اللب. عبر واقية الريح يتسلل نور الهلال وبريق النجوم. من كل كياني ابتهلت لخالق الأكوان. على نحو متقطع كنت أُلقي نظرة على مرآة الخلفيات التي تعكس لي وجه الفتاة وقسماتها التي شوّهها الألم أسمع أنينها فأطمئن. ألا يدلّ الأنين على أن جسدها الصغير ما زال يقاوم الموت؟ لا أدري لماذا كان تفكيري يتجه نحو هزّاع. في العشرين من يناير 1958 كنا في نيويورك. من خلال الكوة الزجاجية في إحدى غرف المستشفى رحت أتأمل مياه نهر هادسن المنسابة ببطء تحت سماء كئيبة. عدتُ لأجلس قرب السرير. وجه هزاع صاف هادئ. قبل أسبوع، ما الفائدة؟ لقد فهم. سواء أعاش المرء حياة سعيدة أم لا، وسواء أخاب أمله في الوجود أم نال ما يرضيه، يُحدق في باب الغرفة. حركة بسيطة، أمسكت بيد أخي. فتح عينيه ابتسم لي ابتسامة واهنة. أحياناً كنت إخال أنه لم يعد يتنفس لفرط ما كان تنفسه ضعيفاً. وكذلك والدتي. ظلت صامتة. برقعها يغطي وجهها وكانت عيناها مغرورقتين بالدمع يمكنني أن أقرأ فيهما كلّ يأس العالم واحتضار النجوم. انقضت ساعات حوالي الثالثة بعد الظهر أسلم هزاع الروح لبارئها. انفجرت أمي بالنحيب مخفية وجهها بين ذراعي خالد. أما أنا فأشحت بوجهي ورحت احدق في المباني عبر الحاجز الزجاجي. تتشح بالسواد. أن تتوقف عقارب ساعاتها. كانت اللاندروفر ، تتقافز مثيرة زوبعة من الغبار الأبيض. كم كيلومتراً قطعتُ على هذا المنوال، يداي تضغطان على المقود، بدت ساكنة. أمينة» لم ترد. قفزت خارجاً. فتحت الباب الخلفي، انحنيت على الفتاة. أدنيت أُذني من شفتيها لأفحص تنفّسها. لكن هذه المرّة كي يرحم ا الله أمينة. الآن. ما زلت أرى أمائر الدهشة التي اعترت أخي عندما أحطته علماً بقراري. تابعت: «ما فائدة المال من دون الصحة؟» ورويتُ له بأدق التفاصيل مأساة الصغيرة أمينة. ذكرته بأن أحد أفراد عائلتنا لو مرض لأمكنه أن يسافر إلى الخارج لتلقي العلاج. أما أفراد شعبنا فلا وشخبوط نفسه ألم ينتهز فرصة وجودنا في إنجلترا لاستشارة طبيب عيون؟ لا بد أنني كنت عاقد العزم على نحو رهيب حتى وافق في الحال. طبعاً، لكن كان ما قمنا به يُعدّ تقدّماً. بيد أن المسألة الأكثر تعقيداً كانت إيجاد طبيب. كانا مُبشّرين أمريكان. أنني عرضت عليهما أن أبني لهما كنيسة صغيرة إن رغبا في ذلك. بعد ثلاث سنوات أصبح هذا المستوصف مستشفى. حتى هذه المرة قرّرت أن أذهب أبعد من ذلك. بعد بضعة أشهر على إنشاء المركز الطبي كان على شخبوط أن يذهب في زيارة رسمية إلى لندن. زيارة تليها رحلة خاصة إلى ألمانيا الشرقية تعقبها إقامة لتلقي العلاج في أمريكا، أي أنه سيغيب عن البلاد – وهذا أمر نادر – بضعة أسابيع. كانت هذه اللحظة هي الفرصة المناسبة التي لا تتكرّر أبداً. على ما في هذا الانتقال من مخاطر. يكفي خطأ واحد في التقدير حتى تغرق الناس والبهائم، أو تغوص الشاحنات في الرمال وغالباً بصورة نهائية. وربّما استغرق الوصول إلى طرف الجزيرة نصف نهار. هذا بغض النظر عن أن المبادلات التجارية بيننا وبين جيراننا تتضرر من هذا الوضع حتى أن العديد من المؤسسات التجارية تحجم عن الاستقرار عندنا. في اليوم الذي غادر فيه شخبوط البلاد ذهبت على وجه السرعة إلى قصر الحصن. الجدير بالذكر أنني كنت العضو الوحيد في العائلة الذي يُسمح له بالإقامة في القصر سواء في حضور أخي أو في غيابه. وكبار التجار، والزعماء المحليين، وأنا بحاجة إليكم جميعاً». كان جوابهم مطابقاً لجواب سكان العين عندما اقترحت عليهم بناء الصاروج كنت في الثانية والأربعين من العمر، وقد علمتني الحياة أنه لإقناع محفل ينبغي أولاً حملهم على الإصغاء، ثانياً أن تحظى بحسن انتباههم، وأخيراً أن تحصل على موافقتهم. وفي اليوم التالي كان جميع المقتدرين قد شرعوا بالعمل. تخيلت شارعاً رئيسياً عرضه أربعة أمتار تقريباً مرصوفاً بالحجارة والطين المجفّف. لا شيء يستحق المشاهدة فعلاً. لكن كانت هذه خطوة إلى الأمام قياساً على الدروب الرملية التي كانت تخترق الإمارات المتصالحة آنذاك. الشاحنتان الوحيدتان اللتان كانتا عندنا وُضعتا في خدمة المشروع - ويعلم الله كيف - مهدنا الكثبان، ونقلنا أطناناً – من الرمال بلا معدّات ولا رفّاشات ولا ملاط. وكرّست أغلب أوقاتي لمتابعة تقدّم الأشغال وحثّ الرجال ما وسعني الأمر. هكذا أنجزنا بسرعة قياسية أول طريق شقت في بلادنا. ولما لم يكن شخبوط قد عاد من سفرته المتعددة المحطات اقتطعت من الخزينة المبالغ الضرورية لإقامة مضخات للري، وبناء سوق ومنشآت تجارية في العين. ولم يتأخر. ثم سألني : جوابه حيرني: فاستطردت: - هذه الطريق التي شققتها، ألم ترها؟ كان من الضروري أن أكافئ أولئك الذين شاركوا في بنائها، بفضل أُمي العزيزة، بعد أشهر، المال. بعد أشهر، احتفلنا بتدشين مدرسة المويجعي. هنا أيضاً لا يتعلق الأمر بمأثرة تبقى محفورة في الذاكرة. على أنني ما زلت أشعر بشيء من الفخر بهذا الإنجاز. ما بعد – وقد لبّى مدرّس أردني طلبي وجاء للإقامة في العين. إرسال الأبناء إلى المدرسة قد يبدو أمراً طبيعياً. لكن ليس عندنا في تلك الأيام. كان الأهل لا يستسيغون الانفصال عن فلذات أكبادهم ولو لبضع ساعات في النهار. وغيابهم يؤدي إلى خسارة في الدخل. وكان عليّ أن أقاتل، حتّى مع صديقي فارس. عاينت فارس لبرهة وجيزة. - أنت أب لولدين، أوماً برأسه موافقاً. العالم كله، - أيهما أختار؟ أعطيهما القصر طبعاً. هذا القصر هو التعليم وآلاف الغرف التي فيه. كلّ كتاب يقرأه الصغار، سوف يفتحان عيونهم على عوالم جديدة، ففي اليوم التالي أخذ فارس ولديه إلى مدرسة المويجعي. لقلة ذات اليد، كنتُ، وبعض الروبيات لذوي التلاميذ الأكثر مواظبة على الدروس حولنا كان العالم في تطوّر مستمر. وكنت مدركاً كل الإدراك أننا بدأنا سباقاً مع عقارب الساعة. أو سلطان، الذين شجّعتهم على الالتحاق بالأكاديمية العسكرية الملكية في ساندهرست».